عادي
قمم خالدة

فرانسيس بيكون.. فيلسوف الشك وعالم التجريب

03:19 صباحا
قراءة 7 دقائق
إعداد: عثمان حسن

«الملاحظة والشك والتجريب».. منهج علمي جديد كان رائده الأول، منقلباً على المنطق الأرسطي، وفاتحاً الباب للبحث والتطبيق والاستقراء، من أجل الوصول إلى الرفاهية الحضارية، دون اصطدام بالدين أو صراع معه.
إنه فرانسيس بيكون، حامل لواء المنهج العملي، الذي جمع الفلسفة إلى العلم والتجريب، فترك إرثاً معرفياً كبير الأثر.
ولد فرانسيس بيكون لعائلة أرستقراطية في العاصمة الإنجليزية، وكان ذلك في الثاني والعشرين من يناير عام 1561 في يورك هاوس بالقرب من ستراند في لندن.
تلقى فرانسيس بيكون تعليماً منزلياً، قبل أن يلتحق بكلية ترينيتي في كامبريدج، وذلك في سن الثانية عشرة، حيث درس العلوم باللغة اللاتينية. وانتقل بعد ذلك إلى جامعة بواتييه في فرنسا لمواصلة مشواره العلمي.
عام 1579 توفي والد فرانسيس بيكون، فكان عليه أن يعود إلى بلاده. وهناك حصل على حصة قليلة من إرث أبيه، ورغم أنه تعرّض للإفلاس بعد ذلك، إلا أنه تمكن من تسوية أموره فيما بعد.
توفي فرانسيس بيكون في التاسع من إبريل عام 1629 في قصر أروندل في هاي غيت خارج لندن بسبب الالتهاب الرئوي الحاد.

منهجه

عاش فرانسيس بيكون في عصر حافل بالتغيرات في مجالات عديدة، من أبرزها المجالان العلمي والفلسفي. وقد ظهرت قامات علمية وفكرية من أمثال جاليليو ونيوتن وغيرهما ممن أسهموا في تفجير ثورة علمية كان من أسسها الخروج على الأفكار العلمية المعلّبة والتحرر من قيد التقليد والانسياق خلف الأفكار غير المثبتة التي ظل بعضها غير قابل للنقاش طوال قرون. كل ذلك جرى جنباً إلى جنب الإصلاح الديني والصراع مع سلطة الكنيسة ونفوذها الطاغي.
هذا المنهج في الشك في المسلمات كان أساساً قام عليه فكر فرانسيس بيكون، الذي آمن بالشك فاتحة للتفكير العلمي الفاعل، وطريقاً للوصول إلى اليقين. وقد كان يرى الشك نافعاً من وجهين: كونه درعاً واقية للفلسفة، تحميها من الأخطاء التي قد تقع فيها، وأنه محفز على مزيد من العلم والمعرفة.
كما أن بيكون هو أول من نادى برفع لواء العلم والروح العلمية، وقد تبنّى التجريب طريقة جديدة للمعرفة، مفجراً بذلك ثورة على فلسفة اليونان وتراث أرسطو ورفاقه، القائمة على المنهج النظري الذي اعتبر بيكون أنه عيب أساسي لدى هؤلاء الفلاسفة، فهو لا يؤمن أن العقل النظري وحده يمكن أن يبلغ بصاحبه إلى المعرفة.
التجريب إذاً، ضرورة في منهج بيكون من أجل العلم، وذلك بإجراء عملية استقراء واستخراج للقاعدة العامة (النظرية العلمية) أو القانون العلمي من مفردات الوقائع استناداً إلى الملاحظة والتجربة.
وقد وجد بيكون أن هذا السبيل كفيل بتحقيق ما تعجز عنه الفلسفات النظرية الجامدة، وقادر على إنجاز الرفاهية الحضارية للبشرية.
هذا المنهج الاستقرائي الجديد الذي وضعه بيكون للعلوم مثّل نقلة كبيرة في التاريخ العلمي، حيث وجد أن ما يجري في مجال العلم ليس إلا مجرد دوران حوله، وخلص إلى أنه ما من سبيل إلا العمل بخطة جديدة كلياً تقوم على إقامة صرح العلوم والفنون العملية.
ورغم ذلك، لم ينجر بيكون كغيره إلى موقع العداوة مع الدين، انتصاراً للعقل، فهو لا يرى العقل عدواً للدين أو بديلاً عنه، فلكل فسحته ودوره، وكل ما كان يريده هو التخلص من التقليد وإجراء مراجعة للمنهج العلمي تقوم على التجريب والملاحظة والبحث والاستقراء.

التجديد الكبير أو «الباكونية»

هو اسم لأهم كتب فرانسيس بيكون، ويمثل جزءاً يسيراً من عمله الذي كان يفكر فيه تحت ذات العنوان، وهو أيضاً من أكثر المؤلفات التي حرص بيكون على كتابتها بعناية، بل هو في الحقيقة، يمثّل حجر الزاوية، وخلاصة لأعماله الفلسفية والتجريبية.
الكتاب يتضمّن ما عرف بطريقة بيكون أو ما يطلق عليها «باكونيان» وهي تلخص منهج بيكون التجريبي في دراسة الخواص والحقائق، كوسيلة لتفسير الظواهر الطبيعية. تنسب هذه الطريقة لبيكون أوائل القرن السابع عشر، كبديل عن الأفكار السائدة البعيدة عن حقائق العلم.
و«الباكونية» تتألف من ثلاث خطوات، الخطوة الأولى «وصف الحقائق» أو الظواهر، والثانية «جدولة أو تصنيف الحقائق»، وهذه بدورها تنقسم إلى ثلاث فئات: (أمثلة على وجود الخاصية أو الظاهرة قيد التحقيق، حالات غيابها، حالات وجودها بدرجات متفاوتة)، أما الخطوة الثالثة فهي «رفض كل ما يظهر في الجداول ولا يرتبط بالظاهرة المدروسة قيد التحقيق.

أقوال

* أفضل إثبات على الإطلاق هو التجربة.
* لا يوجد جمال عظيم يخلو من بعض الغرابة.
* الرجل الحكيم يصنع من الفرص أكثر مما يجد.
* قليل من العلم ربما يجعلك ملحداً، فإذا تعمّقت آمنت بالله.
* صحيح أن القليل من الفلسفة يقنع عقل الإنسان بالإلحاد، ولكن التعمّق في الفلسفة يجلب عقول البشر للدين.
* ليس أخطر على دولة ما من الخلط بين المكر والحكمة.
* الموت صديقنا، ومن لم يكن مستعداً لاستضافته فلن يرتاح أبداً.
* اختر الحياة الأكثر نفعاً، والتعود سيجعل منها الحياة الأكثر قبولاً.
* إذا بدأ الإنسان بقناعات، فسيصل إلى شكوك، أما إذا بدأ بشكوك، فسيصل إلى قناعات.

جامعة أكسفورد وبيكون

اهتمت جامعة أكسفورد في إطار دعمها للتراث العلمي وحفظه بجمع تراث فرانسيس بيكون، فأصدرت «الأعمال الرئيسية له، والكتاب حرره بريان فيكرز، وهو عبارة عن طبعة منقحة وموثوقة من أعماله، ويكشف عن 16 قطعة من أعمال بيكون التي تكشف بدورها عن جوهر طريقته في التفكير.
والكتاب جاء بتكليف من جامعة أوكسفورد، التي حرصت على اختيار أفضل المراجعين، وتوفير النص الأكثر دقة، وهو يعتبر من أفضل الطبعات الورقية التي كتبت عن بيكون، وذلك بشهادة العديد من العلماء والباحثين، وهناك ثناء واضح على جودة التحرير، التي قدّمها بريان فيكرز، حيث يذهب إلى أبعد من تعريف الكلمات، ويكتب مقدمات موجزة ومدروسة للغاية لكل قطعة على حدة.
يشير فيكرز إلى طريقة البحث، فيكتب أنه كان يعود إلى كثير من الموضوعات والاقتباسات والاستعارات، كما كان يحدد المصادر التي يشتغل عليها، ويحدد أيضاً استخدامه للغات اليونانية واللاتينية والفرنسية والإيطالية، وكان حذراً في معرفة قرّائه باللغة الإنجليزية.
في الكتاب يقر فيكرز بفضل العلماء والباحثين السابقين مثل: جيمس سبيدنغ، وأيضاً مايكل كيرنان، خصوصاً مقدمته المختصرة والمملوءة بالمعلومات.

في بطون الكتب

كتاب «تقدّم العلم»، هو أول مؤلفات بيكون، وله صلة بطبيعة العلم والطريقة العلمية، وفيه يطرح وجهة نظره حول وحدة المعرفة، سواء العلمية أو غير العلمية.
كتبه بيكون سنة 1605، وينقسم إلى قسمين، حيث يشار لكل قسم، بوصفه كتاباً مستقلاً، وفي الأول، يحدد بيكون أطروحته حول «تفوق التعلم والمعرفة»، وهو ما يدعوه بالمعرفة النقية عن العالم الطبيعي، الذي يفيد الإنسان نحو مزيد من السعي لفهم كلمة الله.
يشرح بيكون كيف أن الألماني مارتن لوثر، أحد أساتذة اللاهوت شجّع على قراءة النصوص القديمة، حيث تكمن الحقيقة بالنسبة لبيكون في البحث عن العالم العظيم والمشترك. أما الكتاب الثاني، فيحدد فيه بيكون الأوعية الثلاثة التي تشكل نوعاً من مزايا الجدارة نحو التعلم: أماكن التعلم، وكتب التعلم، والأشخاص المستفيدون، حيث تشمل أماكن التعلم: المكاتب الحكومية، والمؤسسات، كما تتضمن كتب التعلُّم المكتبات التي تضم رفات القديسين القدامى والطبعات المؤلفة عن المعرفة، في حين تشمل فئة المستفيدين، الأشخاص الذين تعلّموا العلوم والباحثين عن المعرفة.

«حكمة الأولين»

نشر بيكون هذا الكتاب سنة 1609، وفيه يعلّق على 31 شخصية أسطورية، ويفسر قصصها في ضوء ما أطلق عليه «التعليم الجديد»، وهو يؤكد حكمة الأساطير وعلاقتها بأساليب ومبادئ العلوم الجديدة المتغيرة في العالم. لقد غيرت فلسفة بيكون في المادة والحركة، من خلال كتابه، ليتوافق نوعاً ما مع المسيحية، ولأغراض العلوم الجديدة.

«مقالات» لفرانسيس بيكون

يستعيد هذا الكتاب النسخة الأصلية النادرة من مقالات فرانسيس بيكون، بل هو نواة كتابه الأصلي، الذي اشتمل على بعض العيوب كافتقاده للعلامات والأشكال والهوامش، وقد حرّره «ويل هاو» أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة إنديانا بوصفه مرجعاً يقدم مادة ثقافية مهمة، التزاماً من الجامعة بحماية التراث الأدبي وحفظه وترويجه، من خلال طبعات حديثة، وميسّرة، وعالية الجودة، وتتوافق مع العمل الأصلي.

«أتلانتس الجديدة»

هي رواية لبيكون يعيش سكانها في أجواء أفلاطونية، وهي رواية غير مكتملة، كتبت باللغتين الإنجليزية واللاتينية، ونشرت عام 1927، وصوّر فيها رؤيته لمستقبل الاكتشافات والمعرفة البشرية، في أرض خيالية، كما هو عند سكان جزيرة «بنسالم» التي يعيش فيها الناس في أجواء من المثل، كالكرم والتقوى والورع والتنوير والكرامة والجمال، والكتاب يقدّم سلطة غير محدودة للعلماء، حيث لا توجد مبادئ قانونية للعدالة الاجتماعية، تحد من قدرتهم على تحقيق عالم طوباوي.

على خطى بيكون

انعكست الفلسفة التجريبية لبيكون على آليات تفكير كثير من العلماء من بعده، ومن هؤلاء على سبيل المثال «جون لوك» (1632 - 1704 ) الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي، صاحب المقالة المؤثرة عن الفهم الإنساني التي شرح من خلالها نظريته حول الوظائف التي يؤديها العقل عند التعرف إلى العالم، وله كتاب «عن العقل البشري» الذي يدعم ما يمر به عقل الإنسان من تجارب وأثر ذلك في التفكير والإبداع.
وتأثر بفرانسيس بيكون كذلك الإنجليزي «توماس هوبز» (1588 - 1679)، أحد رواد الفلسفة الحديثة في القرن السابع عشر، والأكثر شهرة خاصة في المجال القانوني، فضلاً عن اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ، وهو أحد الذين وظّفوا مفهوم الحق الطبيعي في تفسيرهم لكثير من القضايا المطروحة في عصرهم، حيث يكتشف الإنسان عن طريق عقله أن من مصلحته طاعتها، ومن ثم فهو مُلزم بأن يفعل ذلك، (فالمصلحة والواجب الأخلاقي هما شيء واحد في هذا المذهب الطبيعي الأخلاقي)، وهوبز بسط القوانين الطبيعية والأساسية بقوله: «القانون الطبيعي والأساس الأول هو أن الناس ينبغي عليهم أن يبحثوا عن السلام ويتبعوه».
وكان إسحق نيوتن (1642 - 1727) أيضاً ممن انعكست فلسفة بيكون عليه، باعتباره الفيزيائي ومؤسس الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية، ناهيك عن كونه أول من صاغ قوانين الحركة وقانون الجذب العام التي سيطرت على رؤية العلماء للكون المادي للقرون الثلاثة التالية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"