«الناتو» بين أمريكا وتركيا

02:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

أسهمت التطورات الدولية الأخيرة في إبراز عجز حلف الناتو عن بلورة موقف موحد بشأن الكثير من الملفات ذات الصلة بالأمن القومي لكل أعضائه، وبدا بشكل واضح أن الحلف بات رهينة التوافق بين رغبات كل من واشنطن وأنقرة دون التنسيق مع الشركاء الأوروبيين الذين وجد الناتو أصلاً في زمن الحرب الباردة من أجل الدفاع عنهم، وقد شعرت دول أوروبا الكبرى وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا بأنها عاجزة عن إسماع صوتها والدفاع عن مصالحها داخل منظومة دفاعية خاضعة بشكل كبير للإرادة الأمريكية التي لديها حسابات جيوسياسية مع تركيا تتعارض في بعض جوانبها مع مصالح أغلب الدول الأوروبية، التي باتت تخشى أن تؤدي التحالفات الغامضة بين تركيا وأمريكا من جهة، وبين أنقرة وموسكو من جهة أخرى، إلى عزل أوروبا ومعها مؤسسات الاتحاد الأوروبي عن محيطها الإقليمي والجيواستراتيجي.
ويشير الكاتب سيرج حليمي في السياق نفسه، إلى أن الاتحاد الأوروبي ومعه الحلف الأطلسي ما زالا يخضعان منذ التأسيس للهيمنة الأمريكية، حيث دفعت دول من داخل القارة العجوز الاتحاد الأوروبي والناتو إلى الانصياع لسياسة واشنطن وبخاصة بريطانيا التي مارست دور حصان طروادة بالنسبة للسياسة الأمريكية في المنطقة، وعملت على توسيع قاعدة الهيمنة الأمريكية على القارة من خلال تسهيل انضمام دول شرق ووسط أوروبا إلى الاتحاد وإلى الناتو لإضعاف قدرة العواصم الغربية الأخرى على الوقوف في وجه الإملاءات الأمريكية، لاسيما في مجال الدفاع والسياسة الخارجية، بسبب مراهنة الأغلبية الساحقة من دول أوروبا على القوة العسكرية الأمريكية من أجل ضمان أمنها القومي، الأمر الذي يدفعها إلى تقديم دعم غير مشروط للسياسة الخارجية الأمريكية في ملفات عديدة، والتي كان آخرها اعتراف دول أوروبية بزعيم المعارضة خوان غوايدو كممثل شرعي للحكومة في فنزويلا.
وقد أثار قيام واشنطن مؤخراً بالتخلي عن حلفائها الأكراد في شمال سوريا وقبولها المبطن بالهجوم التركي على الأراضي السورية، موجة استهجان واستنكار كبيرين لدى الرأي العام الأوروبي لاسيما في فرنسا وألمانيا، حيث طالب الكثير من السياسيين في البلدين بطرد تركيا من الحلف الأطلسي. وأفاد استطلاع للرأي في ألمانيا بأن 58 في المئة من المستجوبين يؤيدون إقصاء أنقرة من حلف الناتو؛ ويذهب بعض المراقبين إلى أن قبول واشنطن الضمني بتحركات أنقرة في شمال سوريا يعود لأسباب موضوعية من أهمها مواصلة تركيا لجهودها في مراقبة الحدود البحرية لروسيا وشراؤها ل60 في المئة من حاجياتها من الأسلحة من أمريكا واستقبالها لجزء معتبر من الرؤوس النووية الأمريكية على أراضيها في قاعدة «إنجرليك» الجوية.
وهناك مؤشرات عديدة تدعم إحساس الأوروبيين بأن الحلف الذي توجد أغلب قواته فوق أراضيهم، أضحى يتأرجح بين واشنطن وأنقرة، حيث سبق للرئيس الأمريكي أن أعلن في وقت سابق أن الناتو تجاوزه الزمن وأن بلاده ليست مستعدة للإنفاق على أمن أوروبا وعليها أن تدفع «مستحقاتها» كاملة للحلف، وفي الجهة المقابلة أبدت تركيا في الآونة الأخيرة شعورها بالضيق من عضويتها في الحلف الذي تراجعت أهميته بالنسبة لأمنها القومي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتشعر الآن أكثر من أي وقت مضى أنها بحاجة ماسة إلى التنسيق العسكري والأمني مع روسيا التي عادت مؤخراً لتلعب دوراً رائداً في منطقة الشرق الأوسط.
ومن الواضح أن هناك في المقام نفسه شعوراً متزايداً بالقلق لدى الأوروبيين من التنسيق المتزايد بين تركيا وروسيا لاسيما بعد إقدام أنقرة على شراء منظومة الدفاع الجوي «إس 400» من موسكو، إذ ترى العواصم الأوروبية أن تركيا تخلط الماء بالزيت عندما تنسق عسكرياً مع روسيا وتحتفظ بعضويتها في حلف الناتو بمباركة أمريكية مقنعة، فقد أشارت الكثير من التقارير إلى أن واشنطن لم تلجأ إلى وقف تسليمها لطائرات إف 35 لأنقرة بعد إبرامها لصفقة الصواريخ الروسية، إلا بعد أن تعرضت لضغط كبير من «إسرائيل» ودول أوروبية من حلف الناتو.
وبموازاة الدعوة إلى إقصاء أنقرة من الحلف، هناك دعوات قوية داخل بعض الدول الأوروبية وتحديداً في فرنسا تطالب بالانسحاب من هذا الحلف الذي فقد الجزء الأكبر من هويته الأصلية بعد سقوط حائط برلين، ولم يعد يشكل رهاناً حقيقياً بالنسبة للأغلبية الساحقة من دول أوروبا باستثناء دول شرق أوروبا التي يدفعها تخوفها من الدب الروسي إلى الخضوع للابتزاز الأمريكي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"