أوروبا والروح الأوكرانية

04:04 صباحا
قراءة 4 دقائق
يوشكا فيشر
يصادف شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة "الميدان الأوروبي" في كييف . فقد انتفضت أقسام كبيرة من سكان أوكرانيا وخاصة الشباب للاعتراض على رفض الرئيس الأوكراني آنذاك فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي (والتي بلغت صورتها النهائية بعد سنوات عدة من المفاوضات)، لمصلحة الانضمام إلى اتحاد جمركي مع روسيا . وكان ذلك يعني تحول أوكرانيا شرقاً، فانضمامها إلى اتحاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأوراسي يستبعد تماماً أي احتمال لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي .
من الأهمية بمكان في ضوء الأزمة المستمرة في أوكرانيا أن نضع نقطة الانطلاق هذه أول ثورة مؤيدة لأوروبا في القرن الحادي والعشرين، والتي اندلعت بسبب معارضة النفوذ الروسي والفساد والعجز في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي في الحسبان .
لقد حدث الكثير منذ ذلك الحين: فقد شنت روسيا حرباً غير معلنة، فاحتلت ثم ضمت شبه جزيرة القرم . وفي شرقي أوكرانيا واصل الكرملين الحرب التي يبدو الفوز فيها غير وارد من الناحية العسكرية في نظر سلطات كييف في منطقة دونباس .
إن هدف روسيا ليس احتلال أوكرانيا عسكرياً، بل منع الاستقرار السياسي والاقتصادي هناك وهي الاستراتيجية التي قد تتضمن انفصال أجزاء كبيرة من شرقي أوكرانيا بحكم الأمر الواقع . وعلاوة على ذلك، سوف يستخدم بوتين كل الأدوات المتاحة له مثل إمدادات الطاقة بطبيعة الحال للضغط على أوكرانيا وابتزازها هذا الشتاء .
وينبغي للأوروبيين أن يجهزوا أنفسهم لما هو آت . الواقع أن بوتين يعتقد أن الوقت في صفه؛ وهو مقتنع بأنه سوف يظل في منصبه عندما يكون كل زعماء الغرب أوباما وكاميرون وهولاند وميركل قد خرجوا منذ فترة طويلة من المشهد السياسي .
من الناحية العسكرية، لم تكن ولن تكون لدى أوكرانيا أي فرصة في مواجهة الجيش الروسي . ولكن مصير البلاد لن يتحدد في ساحة المعركة فحسب، بل على الساحات الاقتصادية والقانونية والإدارية والسياسية أيضاً . والسؤال المصيري الآن هو ما إذا كانت أوكرانيا، الواقعة تحت الضغوط الهائلة التي يفرضها جاره الأكبر والأقوى كثيراً، من الممكن أن تصبح أكثر أوروبية بنجاح . والخيار صريح: فهي إما تنجح في محاكاة تحول بولندا الناجح نحو أوروبا، أو تسقط مرة أخرى في نير النفوذ الروسي الطويل الأمد .
وبالنسبة إلى أوروبا، يشكل مصير أوكرانيا مسألة استراتيجية حيوية، لأن استقلالها كان حجر الزاوية في النظام الأوروبي وإطاره للسلام في فترة ما بعد الحرب الباردة . وإخضاع أوكرانيا لروسيا بالقوة العسكرية من شأنه أن ينزل الستار على هذا النظام ومبادئه الأساسية: نبذ العنف، وحرمة الحدود، وتقرير المصير الشعبي، وليس الاستحواذ على مناطق النفوذ .
وهذا من شأنه أن يخلف عواقب وخيمة على الأمن، ليس في أوروبا الشرقية فقط، بل في القارة بأسرها أيضاً . ومرة أخرى، سوف يصبح لروسيا الانتقامية بعيداً عن كالينينغراد ودول البلطيق حدود طويلة مشتركة مع الاتحاد الأوروبي، وسوف تسعى إلى الاضطلاع بدور مختلف وأكثر صرامة إلى حد كبير: دور القوة الأوروبية العظمى العائدة . وهذا يمثل بالنسبة لأوروبا تغييراً جوهرياً إلى الأسوأ . إذ سوف تحل المواجهة محل التعاون، والشكوك محل الثقة، وإعادة التسلح محل الحد من التسلح .
وإذا كان بوسعنا أن نلوم الاتحاد الأوروبي وبلدانه الأعضاء (باستثناء بولندا ودول البلطيق)، فإن هذا لن يكون لأنها تفاوضت على اتفاقية تجارة حرة مع أوكرانيا، بل لأنها تجاهلت أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى النظام الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهو ما انعكس في عدم كفاية الدعم المقدم لتحديث البلاد .
كان من الواجب على الساسة الغربيين أن يدركوا أن ثورة أوكرانيا البرتقالية في عام ،2004 والتي اندلعت بسبب محاولة يانوكوفيتش سرقة الانتخابات الرئاسية في ذلك العام، كانت بمثابة تحذير وفرصة، لأن الأهداف والمبادئ نفسها التي تخاض الحرب من أجلها اليوم كانت على المحك آنذاك . وفي نهاية المطاف فشلت الثورة البرتقالية لأن القيادة الجديدة كانت تفتقر إلى القدرة والحافز لتنفيذ إصلاحات اقتصادية وغيرها من الإصلاحات الداخلية البعيدة المدى، وهو ما كان راجعاً في جزء منه إلى عدم اهتمام الغرب .
ومع اقتراب الشتاء، بلغت ثورة الميدان الأوروبي مرة أخرى النقطة نفسها، والتحدي الآن هو التحدي ذاته الذي كان قبل عقد من الزمان . فهل يقدّم الغرب المساعدة السخية النشطة التي تحتاج إليها أوكرانيا لكي تصبح أكثر أوروبية؟
إن أوكرانيا تظل بلداً يحمل إمكانات الثراء كافة، وهي اليوم أقرب إلى أوروبا والعكس صحيح أكثر من أي وقت مضى في الماضي الحديث . وإذا نجحت أوكرانيا في كسر أغلال ما بعد العصر السوفييتي، فلن يكون هناك أي سبيل للالتفاف حول عضويتها في الاتحاد الأوروبي . وعلاوة على ذلك، يبدو أن الغرب أدرك أخيراً ما هو على المحك في أوكرانيا، وهو على وجه التحديد مستقبل النظام الأوروبي وإطاره للسلام .
إن نجاح ثورة الميدان الأوروبي سوف يتوقف بشكل حاسم على الشعب الأوكراني وقدرته على تحرير نفسه من هياكل الماضي وقواه، وعلى دعم الغرب وسخائه وصموده .

* كان وزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها في الفترة 1998-،2005 والمقال ينشر بترتيب مع "بروجيكت سنديكيت"

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"