استراتيجية هجومية روسية

02:57 صباحا
قراءة 3 دقائق
في حقبة الحرب الباردة، كانت استراتيجية الولايات المتحدة تقضي باحتواء التوسع السوفييتي إلى أن ينهار النظام الاقتصادي الشيوعي غير الفعال من الداخل، وعلى الرغم من تحوير استراتيجية الاحتواء العسكري والاقتصادي والسياسي، التي صاغها في الأصل جورج كينان، بحيث تحولت إلى استراتيجية تركز أساساً على التدخل العسكري والعمل السري لوكالة الاستخبارات المركزية "سي آي ايه"، فإن الاستراتيجية نجحت إلى حد بعيد .
ولكن لو بقيت الولايات المتحدة أمينة لتصور كينان الأصلي وحصرت استراتيجية احتواء القوة السوفييتية فقط في تلك المناطق من العالم المهمة فعلاً من منظور استراتيجي - أي مناطق الإنتاج الاقتصادي والتكنولوجي المرتفع - لكانت قد تركت الإمبراطورية السوفييتية تفلس نفسها بسرعة أكبر نتيجة لتوسعها في العالم النامي الذي كان آنذاك شديد الفقر . فالتوسع الشيوعي في مناطق فقيرة من العالم كان من شأنه أن يزيد الأكلاف السوفييتية لإدارة تلك المناطق ومساعدتها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، باختصار لو اتبعت الولايات المتحدة مثل هذه الاستراتيجية الانضباطية في الحرب الباردة، لكانت قد تجنبت الغوص في حربين مكلفتين وغير استراتيجيتين في كوريا وفيتنام، ومراكمة ديون هائلة لتمويل برامج تسلح مكثف في زمن السلم خلال رئاسة رونالد ريغان في الثمانينات .
وطبعاً، كان من شأن تبني استراتيجية انضباطية أن يحول دون تحقيق الغاية الحقيقية لأعمال الولايات المتحدة تجاه "القوة العظمى" السوفييتية . فمع أن الاتحاد السوفييتي كان تهديداً إلى حد ما، إلا أن مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية بالغت في تضخيمه حتى تخفي حقيقة بناء إمبراطورية أمريكية عبر العالم، والإمبراطورية الأمريكية غير المعلنة - بخلاف الإمبراطوريتين المعلنتين البريطانية والفرنسية - كانت مدعومة داخلياً، ليس فقط من قبل نخبة السياسة الخارجية الأمريكية، وإنما أيضاً من قبل المجمع العسكري - الصناعي - الكونغرسي . باختصار، المؤسسة الأمريكية استغلت البعبع السوفييتي كذريعة لإعادة بناء العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا كان هناك مواطنون أمريكيون يشكّون في أن تكون حكومتهم قد فعلت مثل هذا الأمر، فيجب أن يسألوا أنفسهم لماذا بعد انهيار الإمبراطوية السوفييتية والاتحاد السوفييتي ذاته، أخذت الإمبراطورية الأمريكية تتوسع بدلاً من أن تتقلص؟
هذا يوصلنا إلى الشكوى المحقة تماماً لروسيا وفلاديمير بوتين من السياسة الأمريكية في عصر ما بعد الحرب الباردة . إذ إن انهيار حلف وارسو، الذي كان يشكل منطقة عازلة لروسيا، زاد خطر توسع كتلة عسكرية معادية - هي حلف الأطلسي - من خلال إغراء الدول الأعضاء سابقاً في حلف وارسو بالانضمام إلى الحلف الآخذ في التوسع . وهذا التوسع تواصل حتى حدود روسيا مباشرة، وحتى قبل أزمة القرم، كانت المقاتلات الأمريكية تجوب الأجواء الحدودية بين روسيا ودول البلطيق الأعضاء في الاطلسي .
ولماذا تعتقد روسيا أنها بحاجة إلى منطقة عازلة؟ من منظور روسيا، غزا نابوليون وهتلر روسيا، ففقدت 40 مليوناً من سكانها في تينك الحربين العالميتين، وعبر التاريخ، أقامت قوى كبرى كثيرة مثل هذه المناطق العازلة . وعلى سبيل المثال، إضافة إلى إمبراطوريتها العالمية غير المعلنة، احتفظت الولايات المتحدة لنفسها منذ العام 1823 بحق التدخل عسكرياً في أي مكان من أمريكا اللاتينية بموجب مبدأ مونرو .
عندما يمرغ منتصرون أنوف مغلوبين في التراب، فهم يزرعون بذور نزاع مقبل - كما تعلمت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى . وبعضنا حذر من عواقب سيئة للولايات المتحدة حين تكرر ذلك مع روسيا خلال فترة ما بعد الحرب الباردة في التسعينات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين - بدلاً من أن تتبع الولايات المتحدة مثال ادماج فرنسا في أوروبا عقب الحروب النابوليونية، وهو ما أدى إلى قرن من دون حرب كبرى . وبعد انتهاء الحرب الباردة، اقصيت روسيا من أوروبا، بدلاً من التخلي عن حلف الأطلسي وادماج روسيا في الأسرة الأوروبية العريضة . علاوة على ذلك، وعد الرئيس جورج بوش الأب الزعيم السوفييتي آنذاك ميخائيل غوربا تشوف بأن الأطلسي لن يتوسع، مقابل موافقته على إعادة توحيد المانيا، ولكن ذلك الوعد انتهك المرة تلو الأخرى .
وروسيا مهانة انبعثت فيها الروح القومية بقيادة بوتين شوفيني، إنما هي نتيجة مباشرة للسياسات السابقة للولايات المتحدة .
وعندما رأى بوتين تآكل المزيد من منطقته العازلة وسقوط حكومة يانوكوفيتش الأوكرانية الصديقة لروسيا، طفح به الكيل من الإذلال، فتحرك لإنقاذ ما بقي، من خلال إعادة ضم منطقة القرم الناطقة بالروسية إلى روسيا . وأوكرانيا المجاورة كانت دائماً استراتيجية بالنسبة لروسيا، إذ تضم الميناء الوحيد لروسيا على مياه دافئة وقاعدتها البحرية الاستراتيجية في سيفاستوبول . في المقابل، لا أوكرانيا ولا القرم منطقة استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة .

إيفان إيلاند
* محلل دفاعي وكاتب أمريكي (موقع المعهد المستقل)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"