البنوك والنظرة المستقبلية

02:47 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. عبد القادر ورسمه غالب*

في الربع الأخير من القرن الماضي انبرى العديد من المصرفيين لضرورة توسيع نشاطات البنوك وزيادة رساميلها ومنحها كل الصلاحيات للقيام بكافة العمليات المصرفية والاستثمارية والتأمينية تحت سقف واحد. وفي خضم هذا الانبراء تم عمل «لوبيات» كبيرة وسط رجال السياسة والتشريع لأن منح البنوك هذه الصلاحيات الواسعة بالضرورة يحتاج إلى سياسات جديدة مقرونة بتشريعات جديدة. وبالفعل نجحت هذه التوجهات الجديدة وتم تعديل القوانين والتشريعات من أجل تمكين القطاع المصرفي من خلق كيانات مصرفية كبيرة وخلق ما يسمى «بالبنوك الشاملة» وتحقق هذا بعد إصدار قانون «جرام ليتش بليلي» لعام 1999 في أمريكا والذي ألغى بعض أحكام قانون «جلاس ستيغال» لعام 1933.

وللتوضيح فإن قانون «جلاس ستيغال» لعام 1933 كان يتناول أحكاماً لا تسمح للبنوك الأمريكية بممارسة أي أعمال غير الأعمال المصرفية التقليدية مثل فتح الحسابات وقفلها مع تقديم القروض والضمانات المصرفية للعملاء من الأفراد أو الشركات بعد الحصول على الضمانات الضرورية. إضافة للقيام بالأعمال الضرورية اللازمة لإدارة الحسابات مثل تحويل النقود واستلامها وصرف وإدخال الشيكات أو الكمبيالات والسندات الإذنية واعتماد التوكيلات الضرورية لإدارة الحسابات نيابة عن أصحابها وغير هذا من العمليات المصرفية التقليدية. واستناداً على هذا القانون (الذي يحمل اسم من قام بإعداده) كان لا يجوز للبنوك في أمريكا ممارسة أعمال الاستثمار بأي شكل من الأشكال لصالح العملاء أو ممارسة أي من نشاطات التأمين حيث كان يقوم بهذه النشاطات شركات الاستثمار والتأمين المرخصة وبصورة حصرية تماماً، وإذا مارست البنوك هذه النشاطات تكون عرضة للمساءلة القانونية والجزاءات.

هذا الوضع الحصري لم يعجب بعض أصحاب البنوك الذين كانوا ضد «التقييد» و«الحصر» وعملوا علي إلغاء قانون «جلاس ستيغال» لعام 1933 المقيد للحركة المصرفية تقييداً كاملاً وطالبوا بفتح الباب على مصراعيه أمام البنوك وبالطريقة التي تسمح لها بالمشاركة في كافة النشاطات التجارية والاستثمارية والتأمينية وذلك من أجل دعم النشاطات الاستثمارية والاقتصادية والتجارية في كل البلاد.

هذه التوجهات، التي تنادي بإلغاء التقييد، وجدت أذناً صاغية ووجدت كامل الترحيب والدعم من بعض أصحاب النفوذ وبعض السياسيين ورجال الكونغرس والمشرعين، ولذا تم إلغاء القانون أعلاه وتم إصدار قانون «جرام ليتش بليلي» لعام 1999 (وهو أيضاً يحمل اسم الشخصين اللذين قاما بإعداد القانون). وهذا القانون الذي قام بتوقيعه الرئيس كلينتون في حفل كبير ألغى كل القيود وأطلق يد البنوك التي وجدت الدعم القانوني الذي يسمح لها بممارسة كل الأعمال الاستثمارية لصالح العملاء في كافة الاستثمارات وفي أسواق المال والأسهم والسندات وكذلك ممارسة بعض نشاطات شركات التأمين بالاشتراك مع شركات التأمين. وهكذا تقوم البنوك الآن بممارسة كل هذا لصالح عملائها ومن أجل عملائها وبدون تقييد أو حظر كما كان سابقاً.

وظهر النجاح التام لهذه النظرة الجديدة، وتطبيقاً لأحكام قانون 1999، في تأسيس «سيتي جروب» كأكبر مجموعة مصرفية في أمريكا والعالم وذلك بعد اندماج سيتي بنك مع ترافيليرز جروب. وتبع هذا حراك كبير أدى لقيام وحدات مصرفية عملاقة في أمريكا وأوروبا واليابان بعد اندماج البنوك مع شركات التأمين وشركات الاستثمار... وهكذا أصبح قيام المؤسسات المصرفية العملاقة ذات الأيادي العديدة أمراً واقعاً وحقيقة قائمة بذاتها، وهكذا أصبحت النظرة الجديدة لمستقبل العمل المصرفي.

كانت القوانين لا تسمح للبنوك البتة بمباشرة أعمال التأمين، سواء من قريب أو بعيد، أو القيام بعمليات الاستثمارات المالية لصالح العملاء أو الوساطة في أسواق المال أو تغطيتها بالضمان، ولكن تحقيقاً للنظرة الجديدة في توسيع السلطات المصرفية، تم إلغاء هذه القوانين المقيدة واللوائح المكبلة وانتهاج سياسة ال (دي ريقيوليشن) ما فتح الأبواب أمام البنوك الشرهة للاندفاع الكامل للعمل في كل الاتجاهات والجري خلف كل ما يرى من خلاله أو خلفه الأرباح حتى ولو كانت قليلة ومحفوفة المخاطر.

وبدأت البنوك بممارسة الأعمال المصرفية وأعمال التأمين والاستثمارات المالية وصار العمل في كل الاتجاهات وفيما هو منظور أو غير منظور، وفيما هو مضمون أو غير مضمون، وفيما هو معروف أو غير معروف. وهكذا توسعت وتداخلت الأعمال المصرفية ما زاد من المسؤوليات وتعدد النشاطات، ولكن لكل فعل رد فعل مماثل أو معاكس، ومن خلف هذه النشاطات كان رد الفعل هو الارتفاع الكبير لوتيرة المخاطر المصرفية والمخاطر التشغيلية والمخاطر القانونية...إلخ.
وهذا الوضع الخطير نتجت عنه مخاطر جمة ومتعددة ليس للبنوك فقط وإنما أيضاً للسلطات الإشرافية والرقابية التي جابهت أوضاعاً جديدة صعبة وغير مألوفة لديها من قبل. وفي بعض الحالات انفرط العقد ووقع المحظور وفشلت بعض المشروعات في تحقيق المردود وفشل بعض العملاء في الوفاء ما أدى إلى حدوث مشاكل التعثر القانونية وظهور المنازعات والقضايا أمام المحاكم وهذا بدوره حتماً يقود إلى صعوبات جمة وخسائر كبيرة تتبعها الانهيارات كما حدث بسبب النشاطات في الاستثمارات المالية وخسائر المشتقات والعقود المستقبلية.
ولهذا يتململ الآن الكثير من المصرفيين خوفاً مما حدث وخوفاً أكثر من المجهول أو مما قد يحدث في أي وقت وبدأ الكثير من المتململين في البحث عن المخارج من هذه الورطة التي جعلت البنوك عملاقة لدرجة يصعب السيطرة عليها أو أن السيطرة عليها قد ينجم منها عواقب خطيرة. ولكن هؤلاء، وكرد فعل مباشر أيضاً للانهيارات التي حدثت، يقولون لا بد من التدخل بكل السبل شاملة القطع والتقسيم والكي بل وعمل الجراحة السريعة للبنوك العملاقة الديناصورية والعمل على تجزئتها وتقزيمها قدر المستطاع ولدرجة تمكن من السيطرة عليها كلما كانت هناك ضرورة لمنع انهيارها وسقوطها حتى لا تتكرر المآسي ثانية.
من سوء القدر والأقدار أن من كانوا خلف قيام البنوك والمؤسسات المالية العملاقة هم الآن من يصرخ وينادي بالعودة للماضي وهم من ينادي بتجزئة وتفريغ البنوك للعمل المصرفي التقليدي فقط وترك ممارسة كل النشاطات الإضافية الأخرى من استثمارات مالية وتأمين وخلافه. هذا وكأنهم يقولون أعطِ الخبز لخبازه وليعد أهل الصناعة المصرفية لصنعتهم الأصلية التي يعلمون سراديبها وأزقتها وشعابها لأنهم أهلها.
وهذه العودة للعمل المصرفي التقليدي بالضرورة ستقلص مساحة عمل البنوك العملاقة ما يقود في نظرهم إلى تجويد العمل وإتقانه وهذا بالطبع سيقلص مساحة المخاطر وما يأتي من خلفها من مصائب غير حميدة قد تقود إلى الخروج من العمل وإصدار شهادة الوفاة.

*المستشار القانوني لبنك البحرين والكويت

وأستاذ قوانين الأعمال والتجارة بالجامعة الأمريكية بالبحرين

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"