الخطر بعد بوتين

02:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
غيلبرت دوكتورو*
كما هي الحال في الحقبة السوفييتية، يظل سائقو سيارات الأجرة الروس، من أحسن المحاورين اطلاعاً، وأشدهم رغبةً في الحديث عن خبايا سياسة البلاد، التي كثيراً ما تكون مبهمة.. فهم يعرفون بغريزتهم من سيرتقي ومن سيصرف من الخدمة، بناءً على ملاحظة من كان يقف أقرب إلى من في المناسبات العامة.

وللتدليل على أن ما يمارسونه من «علم تحليل سياسات الكرملين»، لا يزال حيّاً وفي صحة جيدة، تكهنوا هذا الأسبوع بالتنحية الوشيكة لمحافظ مدينة بطرسبورغ، جورجي بولتافتشنكو، لأنه لم يظهر له أثر في الاحتفالات التي حضرها علية القوم، أثناء «المنتدى الثقافي العالمي الرابع»، وهو مناسبة كبرى أقيمت في العاصمة الإمبراطورية القديمة، واجتذبت إليها كبار المسؤولين من موسكو، الذين كنت تراهم في المدينة في كل مكان.

ولكن المهم بالنسبة إلى الغرب، هو معرفة من يقفون في طابور السلطة وراء فلاديمير بوتين، إذا خلا منصبه منه لأي سبب كان. فالمتشددون في الغرب، لا سيّما المحافظون الجدد، يتحرقون شوقاً إلى تغيير النظام، آملين في أن يتم تنصيب شخصية مطواعة مثل الرئيس الراحل بوريس يلتسين على رأس السلطة.

ولكن، كما تفيد مصادري من الخبراء من سائقي سيارات الأجرة المطلعين، فإن الرجل الذي يلي بوتين مباشرة، ولا تفصله عنه غمضة عين، هو سيرغي إيفانوف، الذي يبدو بوتين إلى جانبه «حملاً وديعاً» في التعامل مع الغرب. وإذا لم يكن إيفانوف، فالشخص المتوقع التالي في الطابور، هو ديمتري روغوزين، وهو واحد آخر من الشخصيات التي تملك عاطفة وطنية جياشة، بالإضافة إلى أنه أثير لدى الكرملين.

وعلى الرغم ممّا دأب المنشق الرّوسي، ميخائيل خودوركوفسكي، والمنشقة ماشا غيسين، على قوله لصحيفة «نيويورك تايمز»، فإن من شبه المؤكد أن «تغيير النظام» في موسكو، لن يحقق الهدف، وهو الإتيان بعهدٍ آخر مثل عهد يلتسين. فالذكريات لا تزال حيّة في الأذهان، عن الإذلال والمهانة اللذين ذاقهما الروس في تسعينات القرن الماضي، بعد الانهيار السوفييتي، يوم أرسل الغرب «خبراء» مالييّن، كتبوا للنظام الروسي وصفة «العلاج بالصدمة» - الذي أدى إلى انخفاض حادّ في مستويات المعيشة، وارتفاع رهيب في معدلات الوفيات.

والذي لا مراء فيه أنه لا يوجد «ليبراليون» يحظون بمحبة الغرب في سلسلة الشخصيات الروسية التي يتوقع أن تمسك بزمام السلطة. ويحسن بالوسط السياسي في واشنطن، أن يستوعب الرسالة التي ينطوي عليها ذلك. كما لا توجد أي علامة مهمة، تدلّ على رفض الجمهور الروسي لبوتين.

في شوارع بطرسبورغ، كان الهرج والمرج المرافق لانعقاد المنتدى الثقافي، محض ستارة خلفية لزيارة المدينة من قبل بوتين، الذي لم يدخلها منذ شهور وفق ما قيل لي. وكان ظهوره المتوقع عند افتتاح احتفالات المنتدى حديث القاصي والداني.
وقد روّجت وسائل الإعلام الروسية، هذا الحدث بين الجماهير المحلية، باعتباره نظيراً لمنتدى دافوس الاقتصادي الذي يعقد في سويسرا، ولكنه «دافوس ثقافي». فقد حضر أكثر من 9 آلاف زائر لمشاهدة عروض الموسيقى والرقص التي حفل بها المنتدى، وحضور مناقشات اللجان التي تجري برعاية المنظمين للمنتدى، وعدد وافر من أعلام الفن، ومشاهير عالم السينما وغيرهم.
وقد تركزت مسارح الأنشطة والفعاليات في القاعة الرئيسية لمتحف الهرميتاج في ساحة القصر. ولكنها امتدت لتشمل أرجاء المركز التاريخي للمدينة. وما أضفى على المنتدى طابعه الدولي، هو حضور دبلوماسيين ومسؤولين حكوميين من أكثر من 40 دولة. وإذا كانت أوروبا ضئيلة التمثيل في الاحتفالات على نحو يدعو إلى الرثاء، (حيث كانت لوكسمبورغ وحدها على جدول المشاركين)، فقد كان هنالك الكثير من وجهاء الشرق الأقصى لسدّ الثغرات.

وكان أكبر تواجد أجنبي مرتبطاً بمنظمة اليونيسكو (للتربية والعلوم والثقافة)، التي تحتفل بالذكرى السبعين لتأسيسها، والتي تصادف أن مديرتها، هي البلغارية، ارينا بوكوفا، خريجة جامعة موسكو للشؤون الدولية، التي تجيد التحدث باللغة الروسية.

وقد تنافس عدد كبير من المشاهير في الحصول على دعوة لحضور الفعاليات المغلقة، بينما حاولت أجهزة الأمن المختلفة، على المستوييْن المحلي والاتحادي، أن تفعل أكثر مما في وسعها لضمان عدم وقوع حوادث.
ولكن بعض الأفراد اللامعين في هذه الأجهزة، وضعوا كثيراً من العراقيل في طريق إصدار شارات تتيح أو تمنع حضور فعاليات معينة (على رأسها الفعاليات التي يحضرها بوتين)، ما تسبّب في فوضى عارمة في التعامل مع الزوار والمشاركين في المنتدى.

واستمرّ الهرج والمرج عند مدخل مسرح مارينسكي-2، حيث أقيم حفل الافتتاح الرئيسي يوم الاثنين، 14-12. وقد تبيّن أن بطاقات الدعوة المطبوعة التي كانت في حوزتنا لا قيمة لها. وكانت النتيجة النهائية لجوء المنظمين للمنتدى إلى الارتجال في التعليمات والإجراءات، وأفلحنا في الدخول بعد اجتياز التفتيش والفحص بأجهزة الكشف عن المعادن.. ليسود في الداخل هدوء سوريالي، وضيافة راقية.

لم يدعنا بوتين ننتظر طويلاً، فكان أول المتحدثين على المنصة، حيث ألقى على الجمهور كلمة ترحيبية مقتضبة، ثم سارع إلى الخروج. وتلا الاحتفال عشاء روسي تقليدي «على الماشي»، حفل بالكافيار وشطائر السلطعون..
والآن بعد أن انتهى المنتدى، أقول لمن قرأوا على حسابي على الإنترنت، ما كنت قد كتبته عن وجود ثغرات ونقاط ضعف في الأمن الرئاسي، إنّ أفضل نصيحة أوجهها إليهم، هي أن يبعثوا برسائل بريد إلكتروني إلى الكرملين، يحثون بوتين فيها على تسريح الفريق المكلف بحماية أمنه الشخصي، وتعيين أناس أكثر ذكاءً.. فآخر ما نحتاجه جميعاً، هو «تغيير النظام» في روسيا.

*المنسق الأوروبي في اللجنة الأمريكية للتوافق بين الشرق والغرب. (موقع كونسورتيوم نيوز).
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"