رسائل تقرير الوظائف المتناقضة والملزمة

03:37 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد العريان *

في ظل هذه المعطيات يبدو أن تقرير الوظائف لشهر مايو/‏أيار لن يثني الاحتياطي الفيدرالي عن رفع أسعار الفائدة في اجتماعه هذا الشهر 25 نقطة أساس اخرى. ولا شك أن تقرير الوظائف القوي يزيد من حظوظ إجراء رفع آخر في أسعار الفائدة في سبتمبر المقبل رغم أن توقعات السوق حوله لا تتجاوز حاليا 20%.
ليس سهلاً أن تتمكن من الهبوط بطائرة في أرض المطار بسلامة، بينما أجهزة القيادة تعطيك إشارات متناقضة وليس لديك ما يكفي من الوقود للمناورة. هذا هو التحدي الذي يواجه اليوم البنوك المركزية الأكثر أهمية في العالم، وعلى رأسها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
فبعد وقفه شراء السندات في إطار برنامج التيسير الكمي وبطريقة منتظمة، يراهن المجلس اليوم على رفع أسعار الفائدة من مستوياتها غير المعتادة حاليا - وسط توقعات الأسواق برفعها هذا الشهر والتي بلغت 90%- للمرة الثانية ضمن خطته لهذا العام التي تتضمن ثلاث مرات، كما يراهن على رسم خطته الخاصة بتقليص ميزانه الختامي الذي تجاوز 4.5 مليار دولار. ويأتي ذلك كله في إطار رغبة المجلس في «تطبيع» سياسته النقدية بعد أعوام مديدة من الاعتماد على معايير تجريبية غير تقليدية.
ويتبنى المجلس هذا النمط الحرج وغير المسبوق من المناورات في ظل الظروف الاستثنائية للسياسة الأمريكية والتقلبات الجيوسياسية على المسرح العالمي، وتضاف إلى ذلك كله بيانات اقتصادية متناقضة تزيد من غموض الإجابة عن عدد من الأسئلة العالقة حول الإنتاجية ومعادلات الأجور ومسار التضخم، بدل أن توضحها، ومثل هذه الأسئلة تبدو أكثر إلحاحاً وتفصيلاً عندما يصدر تقرير الوظائف الشهري الذي هو أهم التقارير.
وللوهلة الأولى يكشف التقرير عن تراجع حاد في معدلات البطالة في ضوء سيل الوظائف التي تم توفيرها بمعدلات قوية والتي بلغت 16 مليون وظيفة منذ عام 2008. وبذلك تراجع منحنى البطالة إلى 4.4% وهو الحد الذي لم يكن المجلس ولا معظم المراقبين يتوقعونه.
لكن ذلك لم يترافق مع ارتفاع في معدلات الأجور بالقدر الذي توقعه المحللون في ضوء التجربة التاريخية وفي ضوء العلاقات الاقتصادية الطبيعية. كما أنه لم يسفر عن ارتفاع ملموس في نسبة المنخرطين في سوق العمل لأن تشديد شروط التوظيف أسفر عن فشل في جذب المزيد من العمال. وتفاعل كل ذلك مع إنتاجية ضعيفة بشكل استثنائي وآليات تضخم أضعف.
وليس مجلس الاحتياطي الفيدرالي وحيداً في هذه الورطة. فالبنك المركزي الأوروبي يواجه نفس التحديات، حيث تعاني منطقة اليورو تدني معدلات البطالة لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2009، مع ضعف مزمن في معدلات التضخم التي لم تنجح في تجاوز نسبة 0.9% حتى الآن رغم كل الجهود التي تبذل.
وتميل السياسة التقليدية في مواجهة بيانات متناقضة ونماذج اقتصادية باهتة قياساً على التجربة التاريخية والتحليلية، إلى التباطؤ وبالتالي اعتماد المرونة والانتقائية. وهذا ما دأبت البنوك المركزية على القيام به لكن حتى هذا النهج ليس بلا مخاطر.
وبما أن الاحتياطي الفيدرالي يستخدم أدوات لا تناسب المهمة التي أنيط به إنجازها، فإنه كلما طال اعتماد الاقتصاد الأمريكي على سياسة نقدية غير تقليدية كلما تضاءلت فوائدها وتراكمت تبعاتها المخربة غير المقصودة. وتشمل تلك التبعات مخاطر اعتماد قوى السوق المفرط على المخاطرة، وسوء تخصيص الموارد وعلاقات مضطربة بين فئات الأصول وموجات التذبذب الرتيبة المدمرة، وفيما يخص البنك المركزي فقدان استقلاليته كمؤسسة أمام التدخلات السياسية.
وفي ظل هذه المعطيات يبدو أن تقرير الوظائف لشهر مايو/أيار لن يثني الاحتياطي الفيدرالي عن رفع أسعار الفائدة في اجتماعه هذا الشهر 25 نقطة أساس اخرى. ولا شك أن تقرير الوظائف القوي سوف يزيد من حظوظ إجراء رفع آخر في أسعار الفائدة في سبتمبر المقبل رغم أن توقعات السوق حوله لا تتجاوز حاليا 20%.
وإضافة إلى تسليط الضوء حول احتمالات رفع الفائدة مرات أخرى، سوف يكشف بيان المجلس بعد اجتماعه هذا الشهر عن رغبته في تعديل ميزانه الختامي بطريقة بطيئة ومملة. وسوف يعلن ذلك تزامناً مع تذكيرنا أن خيار تعديل الخطة يبقى قائماً في حال لم تتوافر الظروف الاقتصادية المناسبة.
وربما يسعف تقرير الوظائف الأخير صناع القرار في فهم ما استعصى من لغز الإنتاجية، لا سيما تسليط الضوء على التغيرات المتعلقة بتوفير الوظائف خاصة الفوارق بين القطاعات التجارية ذات الإنتاجية الأعلى وغير التجارية. لكن التقرير لن يطرح حلولاً جذرية لأي من تلك المشاكل.
ولذلك نحن بحاجة لفهم أعمق للتغيرات الطارئة على النمو والطلب على العمالة وتضخم الأسعار. ولهذا سوف تبقى البنوك المركزية في مواجهة رسائل متناقضة تفرض عليها الحذر حيال مخاطر الهبوط الصعب الذي تدركه أسواق السندات جيداً على ما يبدو، أما أسواق الأسهم فتتجاهله تجاهلاً مثيراً للقلق.
* كبير استشاريي شركة أليانز

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

خبير اقتصادي وكبير المستشارين الاقتصاديين لشركة أليانز Allianz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"