روسيا إلى أين؟

04:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح

روسيا الجديدة قوة لا يُستهان بها، سواء في اقتصادها، أو بقدرتها العسكرية. ومواقفها لا بد أن تهم العالم أجمع والعرب بوجه أخص، فهي قادرة على القيام بأدوار إيجابية على المستوى الإقليمي، أو على المستوى الدولي. وكان موقفها من كثير من القضايا الدولية - إلى وقت قريب - على درجة من الوضوح، لكنه بات أخيراً لدى كثير من المتابعين موضوع لبس، وربما صار لغزاً، يستوي في هذا التقييم خصومها وأصدقاؤها. ولا أحد - في ظني - يستطيع أن ينكر دور النظام الروسي الاتحادي الجديد في إنقاذ روسيا وإخراجها مما كانت وصلت إليه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وانفراط الدول التي كانت تنضوي تحت ذلك الاتحاد. كان الخوف قد عَمّ العالم تجاه الحالة المحزنة التي وجد الشعب الروسي نفسه فيها، فقد انهار الاقتصاد وانهار معه مستوى المعيشة الذي كان يعتبر مثالياً قياسياً، بما كانت تعانيه بعض شعوب العالم الثالث.
لقد نجح النظام الجديد، نظام الرئيس فلاديمير بوتين، فيما يشبه المعجزة، وفي أقل وقت من السنوات، في أن يعيد إلى الشعب الروسي كرامته التي كانت تلاشت في تقدير الكثير من دول العالم القريب منها والبعيد.
واستطاع هذا القائد بهدوء وإجراءات داخلية صارمة لا تستفز الخارج، أن ينهي حالة الاضطراب والفوضى على المستويين السياسي والاقتصادي، وذلك موقف يحسب له وللقيادات التي التفت حوله وساعدته على إخراج روسيا من مستنقع كان كثير من المراقبين يعتقدون أنه سيطول، وسيجعل هذا البلد الكبير خارج لعبة الأمم التي أفادت من سقوط القطب المنافس.
وإلى وقت قريب، كان موقف القيادة الروسية الجديد موضع إعجاب واهتمام من معظم دول العالم، ودول العالم الثالث بخاصة، حيث وجد بعضها في النموذج الروسي الجديد مثالاً يمكن الاقتداء به في مواجهة الفوضى وضبط النظام الاقتصادي، كخطوة أساسية لضبط النظام السياسي والاجتماعي.
وكانت هناك - بعد نجاح روسيا الجديدة واستقرار نظامها الاقتصادي والسياسي - شعوب تحلم بتعددية القطبية وترى أن النظام الروسي الجديد قادر مع دول أخرى أن يسهم في إقامة هذه التعددية القطبية. لكن ما حدث في الفترة الأخيرة فتح باباً للتشكيك في تحقيق هذا الحلم الذي انتظرته البشرية المعاصرة منذ خمسينات القرن العشرين، وكان في جهود الزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر إشارات، بل معالم واضحة إلى تلك التعددية التي انطلقت في البداية من مفهوم الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، بين القوتين الأعظم في ذلك الحين، وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. لقد سئم العالم منذ ذلك الحين من القطبين المتنافسين ومن القطبية المنفردة، وهو الآن أكثر شعوراً بالسأم وأكثر قلقاً على مصير البشرية تحت هيمنة القطبية الواحدة التي أثبتت فشلها وهشاشتها في مواجهة الصراعات والنزاعات الدولية حتى أقلها شأناً.
ومن هنا تتجدد وتتعاظم الدعوة إلى ضرورة قيام القطبية المتعددة الرافضة لمنطق التنافس والاستفزاز والقائمة على مبدأ إعادة التوازن بين شعوب العالم كافة، والحفاظ على السلم وإطفاء نيران البؤر المشتعلة والمرشحة بالاشتعال في أكثر من مكان.
إن الشعوب الصغيرة هي دائماً الضحية السهلة، وهي التي يجري عليها الكبار تجاربهم ويمارسون من خلالها حروبهم التي يرونها هامشية، وهي تأكل الملايين وتطحنهم بالأسلحة التي لا يبخل هؤلاء الكبار في توزيعها بأثمان مربحة على المتحاربين الذين يجدون أنفسهم في حروب مفروضة عليهم وعلى شعوبهم التي تعاني التخلف والمجاعة، وأمراضاً أخرى كانت بالنسبة لمن نسميهم هنا بالكبار قد انتهت منذ قرن ويزيد.
ومن المؤكد أن عالماً متعدد الأقطاب يقوم على توازن المصالح، وليس توازن القوة، والرعب، سيهيئ لواقع جديد يتمكن فيه البشر من أن يتمتعوا بقدر غير قليل من الزمن المستقر وبقدر أكبر من الطمأنينة الاقتصادية والأمل في حياة أكرم ومناخ يسود فيه العدل والتسامح والإخاء.
حقاً، أن روسيا الجديدة قوة لا يُستهان بها، وفي مقدورها أن تكون واحدة من أقطاب عالم المستقبل القريب إذا حددت أهدافها ومواقفها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"