سياسة "زراعة الثقة" التركية

03:57 صباحا
قراءة 4 دقائق

كان الاتفاق حول برنامج طهران النووي حديث الجميع . وبقدر ما كان الدخول البرازيلي على خط الوساطة مفاجئا أو غير معهود بعض الشيء فإن الدور التركي في الاتفاق كان بارزاً ومركزياً ومحور عدد كبير من التعليقات خارج تركيا .

أما في الداخل التركي فقد كيل مديح استثنائي لوزير الخارجية التركية أحمد داود اوغلو الذي عزت إليه معظم التعليقات الفضل في التوصل إلى الاتفاق وإقناع طهران بالتنازل في بعض النقاط ولا سيما تسليم اليورانيوم المخصب بنسبة 5 .3 في المائة دفعة واحدة إلى تركيا وقبل تسلمها في المقابل اليورانيوم المخصب بنسبة عالية، كما القبول بعملية التبادل خارج إيران بعدما كانت القيادة الإيرانية تطلب أن يتم تبادل اليورانيوم داخل إيران .

ولا شك أن أحمد داود أوغلو شخصية علمية بارزة في طريقة تفكيرها التي قرأت الواقع الإقليمي والمؤثرات الأساسية في التاريخ التركي . ومن هنا كانت نظرته إلى الدور الذي على تركيا أن تضطلع به مختلفاً عن السياق الأساسي الذي اتبعه الكماليون على امتداد العقود الماضية . ولا شك أن الرغبة في أن تكون تركيا متفاعلة مع كل محيطاتها الإقليمية من دون واحد دون غيره أو مع واحد على حساب آخر كان في صلب نظرته الجديدة، ومن هنا كانت تركيا تنفتح على أي طرف مستعد للانفتاح عليها .

وبخلاف ما يشاع عن تحوّل في البوصلة التركية فإن الخطوات الأكبر في علاقة تركيا مع الاتحاد الأوروبي حصلت في عهد حزب العدالة والتنمية عامي 2003 و2004 والتي فتحت باب المفاوضات المباشرة لعضوية تركيا في الاتحاد .

وارتقت العلاقات التجارية بين تركيا وروسيا من أربعة مليارات دولار عام 2002 إلى أربعين مليار عام 2008 قبل أن تتراجع بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية .

ودخلت تركيا في تحالفات استراتيجية مع صربيا التي كانت رمزاً لارتكاب المذابح ضد المسلمين .

وعلى الرغم من ارتباط تركيا العضوي مع أذربيجان واعتبار أن الأتراك والأذريين شعب واحد في بلدين فإن أنقرة حزب العدالة والتنمية أبدت استعداداً واضحاً لتجاوز الخلافات مع أرمينيا والتوقيع على اتفاق تاريخي معها رغم أنه لم يجد بعد طريقه للتنفيذ ويواجه عقبات كثيرة .

وقبل اتفاق طهران بيومين كان رئيس الحكومة التركية في أثينا عاصمة اليونان العدو التاريخي لتركيا ومعه عشرة وزراء و300 من رجال الأعمال . وقد وقع أردوغان في يوم واحد أكثر من 35 اتفاقاً فيما لم يتجاوز مجموع الاتفاقات مع اليونان على امتداد ثمانين عاماً ال 25 اتفاقاً .

وقبل أثينا كان أردوغان يستقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويتفقان على إلغاء تأشيرات الدخول إذا لم تتجاوز الزيارة الثلاثين يوماً ويوقعان على تلزيم روسيا إنشاء مفاعل نووي في تركيا . وقريباً سيقوم أردوغان بزيارة إلى أمريكا اللاتينية .

هذه اللقاءات هي فقط تلك التي حصلت خلال الأيام القليلة الماضية وكلها مع قوى غير إسلامية تنتمي إلى المنظومة المسيحية والأوروبية .

وفي إحصاءات ظهرت مؤخراً تبين أن رئيس الحكومة التركية قام في العام 2009 بحوالي مائة زيارة خارجية نصفها إلى عواصم غربية . كما أن وزير الخارجية داود أوغلو قام منذ توليه الوزارة في الأول من مايو/ أيار 2009 وحتى الآن أيضاً بحوالي مائة زيارة منها 28 إلى أوروبا و18 إلى البلقان و8 إلى الولايات المتحدة و9 إلى آسيا و27 إلى الشرق الأوسط . وجلي أن الاهتمام التركي لا يزال بنسبة أكثر من سبعين في المائة في اتجاه العالم الغربي .

ومهما بدا أن تركيا تتحول شرقاً فإنها لا يمكن لها أن تنقطع لا عن الغرب ولا عن أي جوار إقليمي فيها . فالجغرافيا قدر، ولو بانت صحة أن تركيا نقلت البوصلة إلى الكتف الشرقية والإسلامية فهذا يتناقض مع سياسة أحمد داود أوغلو في تعدد البعد وخيار تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي .

الحقيقة أن تركيا تعمل لمصالحها الوطنية أولاً، وهذا طبيعي، بل يجب على كل دولة أن تعمل على أساس مصالح وطنية . الفارق بين تركيا اليوم وتركيا الأمس أن تركيا اليوم تريد أن تكون على علاقة جيدة مع الجميع في الغرب والشرق ومن دون اعتبار للانتماءات الدينية والعرقية . وهذا هدف كبير ودونه مشقات، لكن تركيا برموزها الثلاثة عبدالله غول ورجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو وبسياسة اليد الممدودة وحل النزاعات عن طريق الحوار والدبلوماسية تتقدم بسرعة لتزرع عامل الثقة في جيرانها . وعامل الثقة هذا كان في أساس الاتفاق النووي في طهران الذي فتح آفاقاً جديدة أمام الحل ووضع الغرب ولا سيما الولايات المتحدة أمام امتحان صعب لتبيان صدق ادعاءاتها من زيفها في ما إذا كانت تريد فقط من طهران منعها من امتلاك سلاح نووي أم أنها تريد حرمانها من امتلاك الطاقة النووية لغايات سلمية ومنع تبلور قوة إسلامية كما عمل الغرب من قبل على ضرب محمد علي باشا وجمال عبدالناصر، وغداً، ولم لا؟، تركيا .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"