سيدة القصر

عين على الفضائيات
01:50 صباحا
قراءة 4 دقائق

هل رأيت فاتن حمامة في لقاء تلفزيوني تتحدث مع المذيع بالفرنسية؟ هذا الشريط المقتطع من لقاء أجراه معها مذيع فرنسي أيام الأبيض والأسود، ينتشر على اليوتيوب اليوم، وبفضله تمكنا، نحن الذين لم نعش في ذلك الزمن، من اكتشاف سحر جديد لسيدة الشاشة العربية، التي كلما مر بها وبنا الزمن، تأكد لنا أنها تستحق هذا اللقب وأكثر .

اليوتيوب يصلك عبر الفيس بوك وأنت جالس في بيتك، تشاهده وتتمنى لو يطول أكثر . يبدأ المذيع بالتعريف عن فاتن حمامة بالصوت المرفق بمشاهد لها وهي تمشي على شاطئ مدينة صيدا اللبنانية . يقول المذيع إنه التقاها خلال مهرجان بيروت للسينما، ثم يكمل تعريف المشاهدين بهذه النجمة: فاتن حمامة هي الفنانة الأولى في بلدها بل وفي العالم العربي، يحبها الجمهور وقد عرفت كيف تتميز بأسلوبها الخاص .

تتحدث فاتن في هذا اللقاء، والابتسامة لا تفارق وجهها، ومما قالته إنها كانت تمثل ما بين ال 10 وال 15 فيلماً في العام، ثم اكتفت بثلاثة أفلام فقط . والدها كان أستاذ رياضيات، وقد عملت في الفن منذ سن السابعة، رغم أن نظرة المجتمع للممثل كانت دونية . أرادت أن تصحح هذه الصورة، فقدمت نموذجاً راقياً محترماً، وأعتقد أنني نجحت في ذلك كما تقول .

تشاء الصدف، أن أقرأ في إحدى المجلات المصرية، وفي الأسبوع نفسه، عن واقعة حصلت لهذه النجمة عام ،1951 حين وقّعت عقداً للقيام ببطولة فيلم أشكي لمين قبل أن تقرأ السيناريو، ثم فوجئت قبل موعد التصوير بقائمة الملابس المطلوبة من أجل الشخصية، وكانت صدمتها شديدة حين قرأت أن من بين الملابس مايوه قطعة واحدة . يقال إنها ضربت على صدرها بيدها وأسرعت إلى المخرج إبراهيم عمارة تصرخ اعتراضاً، لأنها لن ترتدي ملابس البحر مهما كلف الأمر . ورغم طلب المخرج من المنتجة آسيا داغر التدخل والتوسط لإقناع فاتن للعودة عن رأيها، إلا أن التصوير توقف أسبوعاً كاملاً حتى توصلوا إلى ما يرضي النجمة التي تمسكت بمبادئها ولم تتراجع، فظهرت ببنطلون وبلوزة على الشاطئ، ورضخ الجميع بمن فيهم المخرج لإرادتها .

المجلة خصصت صفحة لتسرد فيها محطات من تاريخ هذه الفنانة الجميلة، بمناسبة عيد مولدها الذي صادف يوم 27 مايو /أيار، وهي من مواليد العام ،1931 لكن المرء يشعر بأنها هي التاريخ السينمائي بكل عراقته وإنجازاته وإبداعاته . فما الذي ميز هذه الممثلة عن غيرها من بنات جيلها، ومن سبقنها ومن أتين بعدها؟

لا شك أن السينما المصرية عرفت حسناوات كثيرات، وممثلات وصلن إلى النجومية بفضل تميزهن في الأداء، ولكل منهن نكهتها الخاصة وإطلالتها المختلفة . لكن فاتن حمامة، عرفت كيف تفرض شروطها على كل من عمل معها، وتحافظ على مبادئها طوال مسيرتها الفنية التي بدأتها منذ سن الطفولة المبكرة . وكانت بكل ما فيها هانم، بكلامها ومشيتها وملابسها، حتى وهي تؤدي دور فلاحة ريفية فقيرة، ترى في الخلفية امرأة أنيقة أرستقراطية بأخلاقها وعنفوانها وكرامتها وثقافتها، تراها دائماً سيدة القصر .

مَن يتكلم الفرنسية، يعلم أن هذه النجمة أتقنت اللغة بشكل جيد في حوارها مع المذيع، قد لا تتوقعه من ممثلة نشأت وتعلمت في زمن الأبيض والأسود . فانظر إلى ممثلات الأجيال التي تعاقبت على زمن فاتن حمامة، وخصوصاً الشابات اليوم، كم واحدة تجيد الجلوس أمام مذيع فرنسي أو أمريكي مثلاً، ليحاورها ويسألها بحرية وتجيبه بطلاقة؟

أمامك ترى امرأة راقية، مثقفة، ترد بذكاء شديد، صاحبة موقف واضح من كل شيء، ومهما حاول المذيع مجادلتها تصر على موقفها . تشرح، توضح، تبرر، وتكشف عن سعة ثقافتها بقولها إنها تقرأ الصحف العربية والأجنبية، تقرأ كل شيء وتطلع على كل شيء حتى السياسة، لتكون على علم بكل ما يحصل في العالم، كما تقول .

في زمن فاتن حمامة، كان المجتمع يحتقر مهنة التمثيل، خصوصاً في البدايات، بينما كان الممثل مثقفاً متعلماً، يقرأ وينفتح على العالم الخارجي . أما اليوم فالمهنة تدر الملايين على أصحابها، ويتباهون بنجوميتهم بين الناس، بينما المستوى الفكري والثقافي تراجع إلى حدود الاختفاء لدى كثيرين . كانت نسبة الأمية أو التعليم الابتدائي البدائي أكثر انتشاراً بين الناس، وكنت تجد أبناء الطبقة الارستقراطية يمثلون ويبدعون ويتواضعون . وكان المتعلم يتساوى على الشاشة مع الأمي، ولا يمكنك أن تميز بين هذا وذاك، فكلهم يتحدث بلغة راقية، ويؤدون أدوارهم بكثير من الكبرياء ونُبل النجوم، بمن فيهم الكومبارس . النسب معكوسة اليوم، والمفترض أن التعليم أكثر انتشاراً، واللغات متاحة أمام طلبة التمثيل والفنون، لكن الشاشة تئن من بذاءة الكلام وأميّة الفكر والانحطاط في مستوى المشهد الحياتي العام .

تسرد فاتن حمامة بابتسامتها الرقيقة، كيف تصلها رسائل من فتيات يكتبن لها عن مشاكلهن العاطفية، ويطلبن المشورة . وسألها المذيع: بماذا تردين؟ أجابت: أنصحهن بضرورة المواجهة والدفاع عن أنفسهن . وهنا لا نتوقف عند طبيعة ردود النجمة على المعجبات، والتي تدل على الانفتاح في فكرها والتمرد وقوة الإرادة والشخصية لديها، بل عند حرصها على الرد على الرسائل، وحرصها على نصح الفتيات .

خجل تلك المرأة يمتزج مع جرأتها وقوة شخصيتها، فتبدو على الشاشة نجمة بكل المقاييس، تجذبك وتقنعك بأن الفن جميل وراقي ومليء بالإبداع والفكر إذا شئت . ويلفك الإحساس بالحسرة لأنك تعيش في زمن الألوان والتلون على الشاشة وخلفها .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتبة وناقدة سينمائية. حاصلة على إجازة في الإعلام من كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. ساهمت في إصدار ملحق "دنيا" لجريدة الاتحاد ومن ثم توليت مسؤولية إصدار ملحق "فضائيات وفنون" لصحيفة الخليج عام 2002 فضلا عن كتابتها النقدية الاجتماعية والثقافية والفنية. وشاركت كعضو لجنة تحكيم في مهرجان العين السينمائي في دورته الأولى عام ٢٠١٩

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"