صامد في الكرملين

05:37 صباحا
قراءة 5 دقائق

كان صعود فلاديمير بوتين إلى قمة السلطة في روسيا في الفترة 1999-،2000 رغم ضآلة احتمالاته آنذاك، راجعاً جزئياً إلى الإجماع بين أهل النخبة على أهمية إعادة النظام إلى الدولة الروسية بعد عشرة أعوام من الأزمات الداخلية والإذلال الدولي . ولم يكن صعوده إلى السلطة محتملاً لأنه ليس سياسياً محنكاً، ولكنه كان شخصاً تشكلت نظرته إلى العالم على ضوء خبرته في جهاز الاستخبارات السوفييتي (كيه جي بي)، وهي المؤسسة التي مارست عملها وأنشطتها بعيداً من أي رقابة عامة ومن دون خوف من قيود قانونية أو غيرها .

بيد أن نظرة بوتين إلى العالم ليست فريدة من نوعها في روسيا، فمنذ أوائل أيامه في الكرملين، فرض نفسه بوصفه محافظاً روسياً كلاسيكياً يسعى إلى تحقيق هدف تعزيز قوة الدولة الروسية .

كان هدف بوتين الأساسي يتلخص في ضمان بقاء روسيا من خلال الدفاع عنها في مواجهة التهديدات لسلامة أراضيها وسيادتها السياسية وهويتها الوطنية . وتماماً كما كان ضباط المخابرات السوفييتية يصورون أنفسهم بوصفهم حماة الدولة السوفييتية، فإن بوتين يعتقد أنه وحده القادر بشكل فعّال على التصدي للمخاطر التي تهدد روسيا . وهو في هذا المشهد يلعب دور الصامد الذي يعتقد أنه لا خيار لديه سوى الحفاظ على قبضته على السلطة . ومثله كمثل أي ضابط في الاستخبارات السوفييتية فإنه يعمل على تحويل الناس إلى أصول يستخدمها لتعزيز أهدافه .

وفي الداخل، ركز بوتين على مدى العام الماضي على التعامل مع خصومه ومعارضيه باستمالة بعضهم وترهيب آخرين بتحويل الأنظمة القانونية والجزائية الروسية إلى أدوات للقمع - وفي الخارج، تحرك نحو تخفيف النكسة التي ألمت بروسيا نتيجة لسلسلة من الصدمات السياسية والاقتصادية الخارجية .

ففي الشرق الأوسط، يرى بوتين تهديدات حقيقية لبقاء الدولة الروسية من قِبَل الأحزاب الإسلامية التي صعدت إلى السلطة في بعض الدول في أعقاب ثورات الربيع العربي . فقد حولت هذه الأحزاب موازين القوى في المنطقة بعيداً من الحكومات العلمانية، ويحمل بوتين الولايات المتحدة المسؤولية عن تمكين هذه الأحزاب من خلال محاولاتها فرض الديمقراطية على المنطقة .

ونظراً للخبرة الروسية مع الجماعات المتشددة الأهلية التي تسعى إلى الحصول على الدعم من المتطرفين العرب، فإن بوتين يعتقد أن استقرار روسيا داخلياً يتطلب وجود زعماء أقوياء في الشرق الأوسط قادرين على إبقاء المتطرفين تحت السيطرة، ويستطيع أن يتعامل معهم بشكل مباشر . وهذا يساعد في تفسير السبب وراء اعتماد سياسة بوتين في الشرق الأوسط على العلاقات الوثيقة مع الرئيس السوري بشار الأسد .

ومن ناحية أخرى، يستمر الاقتصاد العالمي في فرض مخاطر شديدة على الدولة الروسية . فمنذ وصوله الأول إلى السلطة، سعى بوتين إلى ترسيخ مكانة روسيا وموقفها العالمي على أساس الأداء الاقتصادي المتفوق . وكما أكَّد بوتين في العديد من خطاباته، فإنه يعتقد أن الاتحاد السوفييتي، بتركيزه على سباق التسلح المدمر للاقتصاد مع الولايات المتحدة، خاض المعركة الخاطئة ضد الغرب خلال الحرب الباردة .

ويرى بوتين أن الاتحاد السوفييتي انهار تحت وطأة الديون . وبالتالي فإن بقاء الدولة الروسية يعتمد على قوتها المالية والاقتصادية التي تضمن أيضاً سيادتها .

وخلال العقد الأول من الألفية الثالثة نجح بوتين بفضل ارتفاع أسعار النفط من سداد ديون الدولة . كما نجح في بناء احتياطيات هائلة من النقد الأجنبي، خففت من صدمة الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008 . فمع ارتفاع أسعار النفط في الفترة 2000-،2008 أشرف بوتين على فترة من نمو الناتج المحلي الإجمالي السريع الذي وضع روسيا على الطريق لكي تصبح الدولة صاحبة خامس أكبر اقتصاد على مستوى العالم .

وبذلك، حل النمو الاقتصادي محل القوة العسكرية باعتباره المؤشر الأكثر أهمية للنجاح في روسيا، والذي أكسبها مكاناً في مجموعة البريكس التي تتألف من الاقتصادات الناشئة الكبرى، جنباً إلى جنب مع البرازيل، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا . ونجح النمو في روسيا في توليد الوظائف، وتعزيز الدخول، والمساهمة في عقد من الاستقرار الداخلي .

ولكن يبدو المستقبل اليوم أقل وردية، فقد تباطأ الاقتصاد، والآن تعتقد أغلب الاقتصادات أن روسيا غير قادرة على الحفاظ على نمو الناتج المحلي الإجمالي بمعدل أعلى من 2% دون ارتفاع آخر مستدام في أسعار النفط . ولكن النمو بمعدل 2% (وهو معدل محترم بالنسبة لاقتصاد متقدم) يمثل ضربة كبرى لمكانة روسيا ومهابة بوتين شخصياً، وقد يعرض الاستقرار الداخلي للخطر إذا فقد العاملون وظائفهم في قطاعات التصنيع الحساسة .

والواقع أن بوتين يشعر بالحيرة بشأن الكيفية التي قد يتمكن بها من مواجهة التهديد الذي يفرضه النمو البطيء . ويتلخص المقترح الشخص الرئيس الذي عرضه حتى الآن في الاتحاد الأوراسي نسخة موسعة من الاتحاد الجمركي الحالي بين روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان . وهذا كفيل بتوفير منصة لإعادة ترسيخ التجارة، والنقل، وغير ذلك من الروابط بين دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، وبالتالي الاستحواذ على الأسواق الإقليمية لمصلحة المنتجات الروسية، وضمان الوظائف للروس، وإعادة تأكيد نفوذ روسيا السياسي في جوارها القديم .

ولكن من خلال السعي من جديد إلى اكتساب موقف الدولة ذات النفوذ في اقتصاد وسياسة البلدان المجاورة، فإن روسيا تجازف بخلق توترات سياسية مع الاتحاد الأوروبي . في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وفي قمة إطار الشراكة الشرقية في فيلنيوس، سوف يتخذ الاتحاد الأوروبي القرار بشأن المضي قدماً في اتفاقية الشراكة مع أوكرانيا . وينظر بوتين إلى هذا باعتباره تهديداً لمصالح روسيا الاقتصادية، لأن أوكرانيا من غير المرجح أن تنضم إلى اتحاده الأوراسي إذا تواءمت مع الاتحاد الأوروبي ولن يساوي الاتحاد الأوراسي الكثير في غياب أوكرانيا .

إن تركيز بوتين على دور الدولة ونهج الصمود في التعامل مع المخاطر التي تهدد روسيا يبدو وكأنه يدفعه إلى العودة إلى الصيغ القديمة التي تضعه في مواجهة الولايات المتحدة والغرب . وفي سوريا، يظل بوتين عالقاً بوقوفه وراء الأسد في حين يذبح مواطنيه . وفي جواره، يشرف بوتين على إعادة إنشاء اتحاد سوفييتي مصغر، يتوقف نجاحه أو فشله الآن على القرارات التي تتخذها كييف، وبروكسل، وفيلنيوس، وليس موسكو . وفي الحالتين فإن بوتين يجازف باستفزاز غضب الآخرين وجلب المزيد من النكسات على روسيا .

كبيرة زملاء معهد بروكنغز، والمؤلفة المشاركة مع كليفورد جادي لكتاب السيد بوتين: عميل سري في الكرملين . والمقال ينشر بترتيب مع بروجيكت سنديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"