مستقبل الصراع الأيديولوجي

05:25 صباحا
قراءة 4 دقائق

يبدو أن الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي انتهت للتو تشير إلى أن الانقسامات القديمة بين اليسار واليمين لاتزال قوية كما كانت دوما، وبكل تأكيد في محل ميلادها . ولكن هل هذا صحيح؟

إن الطيف السياسي الحديث نتاج لترتيبات الجلوس في الجمعية الوطنية الفرنسية بعد ثورة 1789 . فإلى اليمين من رئيس الجمعية جلس أنصار الملك والكنيسة، في حين جلس إلى يساره خصومهم الذين كانت نقطة الاتفاق الوحيدة بينهم الحاجة إلى الإصلاح المؤسسي . ولقد استفاد هذا التمييز من ارتباطات ثقافية قديمة بين استخدامات اليد اليمنى واليد اليسرى، وبين الثقة والشك على التوالي، وفي هذه الحالة الوضع الراهن .

ومن اللافت للنظر الآن، بعد استعراض هذه الفترة، أن هذا التمييز نجح في تعريف الولاءات السياسية الحزبية لأكثر من مئتي عام، فاستوعب الحركات الرجعية والراديكالية الكبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين . ولكن انحدار معدلات مشاركة الناخبين في أغلب الأنظمة الديمقراطية اليوم يشير إلى أن هذه الطريقة في تصور الاختلافات الأيديولوجية ربما عفا عليها الزمن . حتى إن البعض زعموا أن الأيديولوجيات والأحزاب لم تعد صالحة كتصنيفات صادقة في مشهد سياسي مفتت على نحو متزايد .

ولكن أحد الانقسامات التي تلوح في الأفق قد تعيد اختراع التمييز بين اليمين واليسار على نحو يتناسب مع القرن الحادي والعشرين: المواقف الاحترازية في مواجهة المواقف الفاعلة في التعامل مع المجازفة كمبدأ في وضع السياسات أو التشريع . وبالمصطلح الاجتماعي النفسي، نستطيع أن نقول إن الساسة الاحترازيين يوجهون تركيزهم التنظيمي نحو منع أسوأ النتائج، في حين يسعى الساسة الفاعلون إلى تعزيز أفضل الفرص المتاحة .

والواقع أن المبدأ الاحترازي هو الأكثر شهرة بين الاثنين، ويتجسد على نحو متزايد في التشريعات البيئية والصحية . فهو يُفهَم عادة باعتباره قسم أبقراط الذي ينطبق على البيئة العالمية: فهو يدور في المقام الأول عن تجنب الضرر . وعلى النقيض من هذا، يرتبط مبدأ الفاعلية بالمستقبليين الذين يرون أن كوننا بشراً يُعَرف وفقاً لقدرتنا على استباق الأحداث عندما يتعلق الأمر بخوض مجازفة محسوبة، سواء بالاستفادة من النجاح أو التعلم من الفشل .

ويتجلى الفارق بين المبدأين في أوضح صوره عند دراسة تأثيرهما في العلاقة بين العلم والتكنولوجيا . فالساسة الاحترازيون يتذرعون بعدم اليقين العلمي كحجة للحد من الإبداع التكنولوجي، في حين يشجع الساسة الفاعلون الإبداع باعتباره امتداداً لاختبار الفرضيات العلمية .

وهناك أيضاً فارق ضئيل فيما يتصل بتصور كل من المبدأين للبشر، فالنمط الاحترازي يطمح إلى بشرية مستدامة، وهو ما يعني على نحو ثابت إخراج عدد أقل من البشر إلى الوجود، والحد من تأثير كل منا على كوكب الأرض . أما أنصار مبدأ الفاعلية فيسعدهم أن يزيد عدد سكان الأرض من البشر بلا حدود، فتشكل هذه الزيادة سلسلة من التجارب الحية، بصرف النظر عن النتائج .

وليس من المستغرب ألا يشعر زعماء السياسة والمال التقليديون بالارتياح بشكل كامل إزاء أي من الفريقين . وفي كل الأحوال فإن الساسة الاحترازيين يقدمون الحفاظ على القيمة التجارية على النمو في الأولوية، في حين يسعى معسكر الساسة الفاعلين إلى حمل الدولة على تشجيع الناس على تجاوز المعايير والقواعد الحالية وليس الالتزام بها . فالشركة الاحترازية تبدو وكأنها نسخة مصغرة من الدولة التنظيمية اليوم، في حين تسعى الدولة الفاعلة إلى العمل كرأسمالي مغامر بشكل أكثر وضوحاً .

ولكن لعل المفهوم الأوضح غياباً عن كل من المنهجين هو مفهوم دولة الرفاهة، أننا قد نتناسل بلا حدود في عالم حيث تطمئن ذريتنا إلى حياة آمنة . ورغم كل الخلافات الكبرى بين الجانبين فإن كلاً منهما يرفض هذا الاحتمال باعتباره وهماً من أوهام القرن العشرين التي لم تتحقق في شمال أوروبا إلا لبضعة عقود من الزمان بعد الحرب العالمية الثانية .

ويكمن وراء هذا الرفض شعور بأن البشرية ذاتها تخضع لتحول هائل في فهمها لنفسها . بيد أن هذا التحول يتحرك في اتجاهين مختلفين تماماً في الوقت نفسه، وهو ما أطلقت عليه وصف البشرية 0،2 .

وتعيد الأنماط الاحترازية تعريفنا بأصولنا الحيوانية المتواضعة، والتي انحرفنا عنها زمناً طويلاً للغاية، في حين يسعى أنصار مبدأ الفاعلية إلى التعجيل بالابتعاد عن ماضينا التطوري . وهم لن يتورعوا على أقل تقدير عن إعادة هندستنا بيولوجياً، إن لم يكن بإبدالها بالكامل بأساس أكثر دواماً وتفوقاً على المستوى الفكري .

لا شك أن كلاً من هذين المبدأين يظل هامشياً نسبياً مقارنة بالخطاب السياسي السائد، ولكن من الممكن أن يعملا على تحويل المحور الأيديولوجي بمقدار تسعين درجة . إن اليمين اليوم مقسم إلى تقليديين ومدافعين عن الحريات؛ واليسار مقسم إلى أنصار الملكية الشيوعية والتكنوقراط . وفي اعتقادي أن التقليديين وأنصار الملكية الشيوعية سوف يشكلون في المستقبل القطب الاحترازي للطيف السياسي، في حين يشكل المدافعون عن الحريات العامة والتكنوقراط القطب الفاعل .

هذان هما اليمين واليسار الجديدان، أو بالأحرى الأسفل والأعلى . وسوف تظل إحدى المجموعتين ملتصقة بالأرض، في حين تتطلع المجموعة الأخرى إلى السماوات .

* أستاذ نظرية المعرفة الاجتماعية في جامعة وارويك، والمقال ينشر بترتيب مع بروجيكت سنديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

مقالات أخرى للكاتب