هل نستطيع التعلم من التاريخ؟

05:54 صباحا
قراءة 3 دقائق
أدرك جيداً مقدار اختلاف المؤرخين والمفكرين حول مدى الاستفادة والتعلم من عِبَر وأحداث التاريخ . فالفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم يقول إن التاريخ لا يخبرنا بأي شيء جديد، إذ البشرية هي هي ذاتها في كل الأزمنة والأماكن . أما الكاتب الساخر جورج برنارد شو فيقول إن الشيء الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم شيئاً منه . وبالنسبة للفيلسوف الألماني هيغل فان ما يعلمنا التاريخ هو أن الشعوب والحكومات لم يتعلموا قط من أي شيء من التاريخ .
بالمقابل يؤكد السياسي الإيطالي الشهير أن الذي يريد أن يتنبأ بما سيأتي به المستقبل عليه أن يستشير الماضي، أي يتعلم من التاريخ .
لا شك في أن الشعوب والمجتمعات تختلف في مقدار تعلمها من التاريخ . أوروبا تعلمت بجد وموضوعية من كوارث صراعاتها في حربين مدمرتين فأقامت اتحادها الذي نراه أمامنا . الحركة الصهيونية لم تتعلم شيئاً من الهولوكوست الذي واجهه اليهود في أوروبا فانقلبت إلى وحش بربري قاتل ينشد أناشيد الفرح الحقير في جنازات ضحاياه .
فأين نقف نحن العرب في أرض العرب؟ دعنا نستعرض بعضاً من الصور لنتعرف ملامح الجواب .
- في الخمسينات من القرن الماضي كنا نردد أن لا حرية لأعداء الشعب في معارك الحرية التي كنا نخوضها، دون ذكر لماهية الجهة التي ستقرر من هم أعداء الشعب، واستناداً لأي قانون ولأي موازين وقيم، واعتماداً على أية شرعية . وانطبق الأمر نفسه على ترديدنا لشعار لا صوت يعلو على صوت المعركة مع العدو الصهيوني . كانت الضحية في النهاية هي الحرية نفسها والديمقراطية وحكم القانون .
اليوم، دون أن نتعلم شيئاً، نهتف بأن لا شيء يعلو على الأمن وسلامة المواطنين ومجيء السياح وتدفق الاستثمار الخارجي، وأن لا مكان لأعداء الأمن وهدوء المجتمع مهما كانت المطالب التي ينادون بها ومهما كانت المظالم التي يريدون رفعها .
لا حرية لأعداء الأمن ولا صوت يعلو فوق صوت استتباب الأمن . ولكن ما هو ذلك الأمن المطلوب، ومن يقرر حدوده وسقفه، وأمن من يجري اللطم باسمه، فتلك تفاصيل ليس أوان الاختلاف من حولها . وكما بالأمس تكون الضحية في النهاية هي الديمقراطية والعدالة وحكم ونزاهة القانون .
- في الخمسينات من القرن الماضي بدأت عادة بناء إعلام يمارس، باسم الثورات أو قادتها العظام أو أحزابها الطليعية القائدة، إعلاماً غير موضوعي في أحسن الأحوال وغوغائياً كاذباً في أسوأ الأحوال . ولقد غطى ذلك الإعلام على الأخطاء والخطايا وأضر بسمعة الثورات وقادتها ومن حيث لا يدري أسهم في الكوارث التي لحقت بكل محاولات التحرر والتوحد والعدالة الاجتماعية التي ملأت آفاق الوطن العربي كله آنذاك .
الآن، وفي خضم محاولات الشعوب العربية كسر حواجز التسلط والظلم والبطش التاريخية، تنهج أكثرية وسائل الإعلام العربية نفس النهج القديم، من غياب الموضوعية، وممارسة الكذب والشتائم السوقية، والانحياز الأعمى لسلطة الحكم والمال، والانخراط في الصراعات الطائفية العبثية . وبذلك تسهم في كل أنواع الغوايات والإثارة المجنونة والخطابات البليدة .
لم يتعلم معظم الإعلام العربي، الرسمي المنافق والتجاري الانتهازي والمجتمعي المريض، إلا من رحم ربي، لم يتعلم من مراهقات الماضي وعبثياته الطفولية .
- في الخمسينات لم تستطع الدول العربية التعايش مع بعضها بعضاً حتى ولو كانت مختلفة في أيديولوجياتها وأنظمة حكمها ودرجات وعي شعوبها . في تلك الأجواء المملوءة بالحقد والكراهية والجهالات السياسية انتهى البعض بالاحتماء بأحلاف أمنية مع دول استعمارية نكاية بالمد القومي، وحارب البعض كل خطوة وحدوية نكاية بهذا القائد أو ذاك، وتخلى البعض عن إخوتهم في العروبة وفي الإسلام حتى في فترات أحلك أوضاعهم، ولم تبق رذيلة إلا ومورست . والنتيجة كانت وبالاً على كل الأمة وعلى الوطن الكبير وربحاً للصهيونية وبقية الأعداء .
لم تتعلم بعض حكومات هذه الأمة من دروس الماضي، إذ اليوم تمارس صوراً من الصراعات ومن المؤامرات ضد بعضها بعضاً أشد وأقبح مما فعلته في الماضي . ولا حاجة لوصف النتائج، فهي كارثية بكل المقاييس .
- لا يسمح المجال لذكر كل الصور الأخرى من مثل حماقات وجنون الدويلة الإسلامية الداعشية الجديدة وهي تمارس النهج نفسه الذي مارسه الخوارج والقرامطة في الماضي البعيد، فما جاء ذلك النهج إلا بالخراب واليباب وبإضعاف الأمة وبإسفاف الدين الذي شوهوه .
هل نستطيع ممارسة نهج الأوروبيين فنتعلم من التاريخ، ولا نلتفت لما يقوله هذا المؤرخ أو ذاك المفكّر عن قيمة التاريخ في حياة الأمم والبشر؟ نرجو أننا قادرون .

د . علي محمد فخرو

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"