غياب الأيديولوجية القومية.. وكوارث الحاضر

00:55 صباحا
قراءة 3 دقائق

د علي محمد فخرو

لنقارن بين زخم الدعم الشعبي العربي، في الخمسينات من القرن الماضي، لكل شعب عربي في أي قطر عربي يواجه الاستعمار، من مثل مواجهته في مصر أو فلسطين أو الجزائر، وبالتالي الضغط لتتبع خطاه.. لنقارن تلك المشاهد التضامنية الرائعة، باسم الأخوّة والهوية العربية الواحدة، بمشاهد حراكات الشعوب العربية المتردّدة الخائفة التائهة اليوم، وبالتالي، المواقف الخجولة، تجاه حملة الإبادة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ومناصروه، من القوى الاستعمارية الغربية، في فلسطين المحتلة، وعلى الأخص في غزّة المحاصرة، المدمّرة، الملطخة بدماء ضحاياها، من أطفال ونساء وشيوخ، في كل مكان.

ما الذي كان يحرك ذلك الزخم الرائع في الخمسينات، وما الذي أوصلنا إلى مشاهد الضعف التي تميّز أيامنا؟ الأسباب كثيرة، ولكن من أهمها، وأكثرها تألقاً هو تواجد الأيديولوجية القومية العربية الملتزمة المناضلة ومدى ترسخها في الجسد الشعبي العربي في الخمسينات، مقارنة بتراجعها في الزمن الحاضر.

من هنا الأهمية الكبرى لموضوع الأيديولوجية الذي قدمنا له في المقالتين السابقتين، وسنستمر في إبراز كل جوانبها كجزء من الثقافة السياسية الضرورية لشابات وشباب هذه الأمة. لن تتحرك الحياة السياسية العربية الآسنة التائهة التي تسعى إسرائيل، ويسعى الاستعمار، معها لتشويه ذاكرتها التاريخية وشلّ تواجدها في صفوف الجماهير الشعبية وفي مؤسسات المجتمعات العربية المدنية، لن تتحرك إلا إذا حسمنا بصورة قاطعة موضوع الأيديولوجية في الحياة السياسية العربية لتكون هي المجيّش، وهي المفّعل، وهي أحد أهم طرق الصعود إلى المستقبل العربي.

إذن، لنواصل نقاش الموضوع:

سواء في المجتمعات الأخرى، أو في بلاد العرب، تركّز نقد، ومن ثم رفض، فكرة الرجوع إلى إحياء الأيديولوجيات الكبرى الشهيرة، تركز على بعض ممارسات تلك الأيديولوجيات الخاطئة، وممارسيها، أكثر مما تركز على مبدأ تواجدها الفكري، أو على مبدأ أهمية لعب دورها الضروري في الحياة السياسية لتلك المجتمعات.

وتدرك أغلبية الناقدين أن التفتيت والتسطيح والتعليب الفكري والحياتي والسلوكي الذي ران على هذا العالم، من خلال الثقافة الجماهيرية النيوليبرالية الرأسمالية العولمية السطحية، لا يمكن مواجهته إلا بأيديولوجيات متنوعة تحاورية دائمة التجدد، وبراغماتية غير متزمتة أو منغلقة على ذاتها.

إن أشد ما يُؤخذ على طرح وممارسة الأيديولوجيات في السابق، هي أنها كانت لا تحاور الآخر الأيديولوجي، وإنما تسعى إلى تهميشه، أو استئصاله. وكانت تلك منهجية تفتقد العقلانية المتزنة، والروح الديمقراطية، وتؤدي بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، إلى تطويع الجماهير والتلاعب بعقول شبابها وشاباتها على الأخص.

وباختصار، تمثلت الاعتراضات على تواجد الأيديولوجيات تحت ثلاثة عناوين كبرى: أولاً، افتراضاتها من أنها وحدها تعرف الطريق إلى بناء المجتمعات الإنسانية المتحضرة، وأنها وحدها لديها القيادات القادرة على إدارة وقيادة وصون التغيرات السياسية والاجتماعية المطلوبة، سواء في شكل الحزب القائد، أو الانقلاب العسكري المنجي، أو غيرهما، وثانياً، فشلها في الاعتراف بأهمية وضرورة التنوع والتعدد الأيديولوجي. وثالثاً، الصلات الحميمة فيما بين بعضها بعضاً، وبين قوى التسلط والدكتاتورية الشمولية، من مثل علاقات بعض الليبراليين بالفاشية والنازية في ألمانيا، وإيطاليا، وعلاقات بعض الاشتراكيين والشيوعيين بالستالينية في روسيا.

في بلاد العرب، منذ خمسينات القرن الماضي، وإلى نهاية القرن، واجهت الحياة السياسية في العديد من الأقطار العربية نفس تلك الإشكالات الفكرية والسلوكية، فيما بين الإيديولوجيات التي حملها هذا الحزب، أو ذاك، أو ادّعى هذا النظام أنه حاميها ومجسّدها، أو ذاك، لنكتشف بعد حدوث كوارث عدة في الكثير من الأقطار العربية، أن أحد أسباب تلك الكوارث هو الفهم، أو التعامل الخاطئ لهذه الإيديولوجية أو تلك. ونحن على الأخص معنيون بالدرجة الأولى بالأيديولوجية القومية العربية بشتى صور طرحها، ومسمياتها. فهذه الإيديولوجية هي التي كانت بالفعل، التي نجحت في أن تكون جزءاً من ضمير ووجدان الملايين في كل أقطار الوطن العربي، وهي التي كانت مرشّحة لأن تنقل الأمة كلها من حال تاريخي متخلف، إلى حال متقدم متمدن إنساني.

ولكن دعنا نؤكد، أن المهم ليس ممارسة النقد لما مضى، وهو جزء من التاريخ الذي يجب أن نتعلم منه، وإنما المهم هو الإجابة عن السؤال التالي: هل لا تزال أوضاع الأمة العربية، التي تغيّرت كثيراً في السنين الأخيرة، تحتاج إلى أن تكون الأيديولوجيات جزءاً من مسارح أنظمتها السياسية المطلوبة، وعلى الأخص لنجاح النظام الديمقراطي الذي ننشد الانتقال إليه، أم سنحتاج إلى التفتيش عن مسار آخر، غير أيديولوجي، لنسير فيه؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/fuynpwwx

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"