ملوك أفارقة على عرش مصر

أشهرهم النوبي بايي أول فرعون أسود

13:40 مساء
الصورة
صحيفة الخليج

يتفق كثير من المؤرخين وعلماء الآثار على أن ثمة فصلا خفيا او مجهولا الى حد كبير بالنسبة لكثير منا بشأن تاريخ مصر القديمة ويتعلق بملوك افارقة قادوا جيوشهم واتجهوا بها شمالا نحو مصر الفرعونية وغزوها وسيطروا عليها لفترة ونصبوا انفسهم فراعنة عليها. ففي عام 730ق.م قرر الملك بايي أحد ملوك النوبة غزو مصر باعتبار ذلك الوسيلة الوحيدة لتخليصها مما هي فيه من فوضى وتمزق

إذ اصبحت بعد الحضارة القوية والمزدهرة متشرذمة الى إقطاعيات وممالك صغيرة ضعيفة لعدد من امراء الحرب وأصدر أمره لقادته قائلا: تخيروا افضل ما في اسطبلاتكم من جياد، وحكم بايي مملكته النوبة والتي تعرف الآن بالسودان نحو عقدين قبل ان يغزو مصر الفرعونية واعتبر نفسه حاكما فعليا لها ووريثا للتقاليد التي كان يسير عليها الفراعنة المعاصرون له مثل رمسيس الثاني وتحتمس الثالث.

ابحر جيش بايي شمالا في نهر النيل لينزلوا عند طيبة عاصمة مصر العليا وقبل خوض المعركة أمر جنوده بتطهير انفسهم بالسباحة والاغتسال في النيل وارتداء ملابس من الكتان ورش اجسادهم بقليل من ماء معبد الكرنك والنظر الى إله الشمس أمون الذي اعتبره بايي إلها ومعبودا شخصيا له وقدم له الذبائح، وهكذا بدأ هذا الملك المطهر من الرجس والآثام وكذلك جنوده معاركهم مع كل جيش يعترضهم في طريقهم. وفي نهاية الحملة العسكرية التي استمرت عاما كان معظم قادة مصر كفوا عن المقاومة واستسلموا بمن فيهم تيفناخت زعيم الحرب في الدلتا الذي بعث برسالة الى بايي يخاطبه فيها: كن رؤوفا رحيما، لا يمكنني رؤية وجهك في ايام الخزي والعار ولا استطيع الوقوف امام شعلتك، ويرهبني جلالك وتخيفني عظمتك وأنا اقيم لها كل اعتبار واحترام. ومقابل الابقاء على حياتهم حث المنهزمون الملك بايي على التعبد في المعابد الفرعونية والاستيلاء على افضل ما لديهم من جواهر وخيول وعبر عن شكره وامتنانه لهم. وبعد ذلك أقدم ملك مصر والنوبة على عمل غير طبيعي فقد جهز جيشه وحمل غنائمه واسلابه وابحر جنوبا عائدا الى النوبة ليعيش بقية حياته هناك بلا رجعة.

وحينما توفي بايي عام 715 ق.م بعد حكم استمر 35 عاما قام مواطنوه بتكريمه وفاء لأمنيته بأن يتم دفنه في ضريح يشبه الهرم المصري وعلى مقربة منه تم دفن اربعة من أحب جياده إليه، وبكل بساطة فإن صورة لوجه هذا الملك النوبي العظيم ليست متوفرة لكن له أشكالاً عديدة على ألواح وقطع من الجرانيت تخلد غزوه لمصر وسيطرته عليها، وفي صورة منقوشة في معبد العاصمة النوبية نباتا او نبطة لم يتبق منها إلا ساقا بايي الذي كان اسود البشرة ليكون اول فرعون أسود من سلسلة من الملوك النوبيين الذين حكموا مصر على مدى ثلاثة أرباع القرن في عهد الاسرة الفرعونية الخامسة والعشرين وعملوا على إعادة توحيد مصر الممزقة وتركوا آثارا عظيمة وخالدة تشير بقوة الى انه كانت هناك في وقت ما امبراطورية عملاقة وشاسعة تمتد مما يعرف بالخرطوم اليوم الى البحر المتوسط وتصدى قادتها وملوكها للآشوريين القساة. وحتى أربعة عقود خلت توصل علماء الآثار الى ما يشير الى أن الفراعنة الافارقة السود لم يأتوا من فراغ وانما نتاجا لحضارة افريقية ازدهرت الى ضفاف الجزء الجنوبي من نهر النيل على مدى 2500 عام او ما يعاصر الاسرة الفرعونية الاولى. وطبقا لهؤلاء العلماء، فإن في السودان اليوم أهرامات يفوق عدد الموجودة في مصر وتنتشر في صحراء النوبة وعلى بعد مئات الاميال شمالا في القاهرة او الاقصر يأتي السياح الذين يملؤهم الفضول وحب الاستطلاع لاستشكاف عجائب الآثار والحضارة المصرية وروائعها وتأملها بكل مهابة وإجلال بينما تندر زيارة الاهرامات والآثار التي ترمز للحضارة النوبية والمنتشرة ببساطة في مساحات صحراوية خشنة بلا عناية في مواقع مثل كورو، ونوري، وميروي حيث تشير بصعوبة الى حضارة وثقافة كانت مزدهرة في يوم ما قديما في بلاد النوبة. وتواجه عملية استيعاب هذه الحضارة وفهمها عقبة خطيرة تتمثل في الغموض والابهام الذي يلف تلك الحضارة وما يتصل بها من ثقافة وتراث، كما ان الحكومة السودانية تعكف حاليا على بناء سد ميروي الذي يعمل بالطاقة الهيدروليكية على النيل على بعد 600ميل الى الجنوب من السد العالي الذي بنته مصر في الستينات من القرن الماضي حيث يتوقع اكتمال بناء السد بحلول عام 2009 وستفيض بحيرة النوبة التي هي جزء من بحيرة ناصر وامتداد لها بطول 109 كم على التضاريس المتاخمة حيث الشلال الرابع. وعلى مدى الاعوام التسعة الماضية طاف كثير من علماء التاريخ والآثار المنطقة وقاموا بحفريات كثيرة قبل ان تختفي حضارة النوبة وتاريخها كما اختفت قارة اطلنطا.

وكان العالم القديم مجردا من العنصرية فما تردد من ان بشرة الملك النوبي بايي كانت داكنة سوداء ليس ذا صلة او ذا أهمية. وتظهر الاعمال الفنية من مصر القديمة وبلاد الاغريق وروما أنه كان هناك إدراك واضح وعميق لمسألة اختلاف ألوان البشر ولم يكن هناك اي دليل على ان البشرة السوداء تشير الى عقدة او مركب النقص لكن الدول الاوروبية توقفت عند هذه المسألة حينما استعمرت افريقيا في القرن التاسع عشر. واعلن المستكشفون الذين تجولوا حول ضفاف نهر النيل في بلاد النوبة انهم اكتشفوا معابد جميلة واهرامات ضمن آثار لحضارة قديمة تسمى حضارة كوش، حيث اكتشف الطبيب الايطالي جوزيبي فيرليني أحد الاهرامات النوبية وأزال رأسه مما دفع آخرين لتقليده على أمل العثور على كنوز ومجوهرات. وذهب عالم الآثار الالماني ريتشارد ليبسييوس الى أن الكوشيين ينتمون الى الجنس القوقازي. كما أن عالم المصريات الشهير في جورج ريسنر من جامعة هارفارد والذي قام بسلسلة من الاسكتشافات الاثرية بين عامي 1916-1919 قال إن ما توصل اليه من آثار عن ملوك النوبة الذين غزوا مصر وحكموها قوضت آراءه وغيرت وافكاره عن أن من المحتمل ألا يكون هؤلاء الملوك هم الذين اقاموا تلك النصب والتماثيل والاضرحة التي دارت حولها حفرياته، واعرب عن اعتقاده بأن ملوك النوبة بمن فيهم بايي كانوا ذوي بشرة سمراء معتدلة مزيج قريب من البشرتين المصرية والليبية، وأن فترات مجدهم وقوتهم كانت قصيرة وسريعة الزوال وانهم كانوا نتاجا لسلالات تزاوج بين النوبيين وافارقة زنوج. وقد ظل كثير من العلماء والمؤرخين لعدة عقود في حال تقلب في الآراء حول الملوك والفراعنة الكوشيين لكنهم أجمعوا على رأي تقريبي وغير حاسم وهو أن هؤلاء الملوك والفراعنة كانوا من البيض فعليا او انهم مخلطون ومهجنون بشكل غير واضح وان حضارتهم كانت فرعا مشتقا من الحضارة المصرية.

ووضع العالمان البارزان والمتخصصان في المصريات كيث سيل وجورج شتايندورف كتابا مفصلا بعنوان حينما حكمت مصر الشرق تحدثا فيه باستفاضة عن حضارة مصر الفرعونية وعلاقاتها بجيرانها في الجهات الاربع بما في ذلك بلاد النوبة وتطرقا الى انتصارات الملك بايي وغيره من الملوك النوبيين وقالا: إن سيطرته على مصر لم تدم طويلا ويمكن القول ان تجاهل تاريخ النوبة هو جزء من عملية تجاهل طويلة لتاريخ افريقيا القديم ويعكس جهلا كبيرا به، وفي هذا الشأن يقول عالم الآثار السويسري تشارلز بونيه الذي زار السودان قبل 44 عاماً: حينما حضرت الى السودان لاول مرة قال لي الناس انت مجنون او احمق فليس لدينا هنا اي تاريخ او آثار فهما هناك في مصر لكن القطع الاثرية وبقايا الاعمال الفنية التي تم العثور عليها اثناء عمليات التنقيب التي صاحت عمليات الحفر الاساسية الخاصة بالسد العالي في اسوان خلال الستينات من القرن الماضي أحدثت تغييرا ملحوظا في هذه الفكرة ومدى جديتها، ففي عام 2003 وبعد عقود من الحفريات وعمليات التنقيب التي قام بها بونيه على ضفاف النيل عند الشلال الثالث وعلى مقربة من كيرما عثر على سبعة تماثيل حجرية عملاقة لفراعنة وملوك نوبيين، وقبل ذلك اكتشف فريق عماله مجمعا عمرانيا وحضريا وآثارا تدل على انه كان غنيا نابضا بالحياة حيث تحيط به البساتين والحقول الخصبة وانه كان يضم عددا كبيرا من السكان وقطعانا كبيرة من الماشية وازدهرت فيه تجارة الذهب وخشب الابنوس، والعاج ويقول بونيه في هذا المعنى: كانت مملكة حقيقية مكتملة بعيدة عن مصر لها ثقافتها وعاداتها وتقاليد بنائها ومراسم دفن الموتى ويبدو أن هذه المملكة هي التي تلت انتهاء المملكة الوسطى بين عامي 1785-1500 ق.م حيث امتدت الامبراطورية النوبية بين الشلالين الثاني والخامس، وأثار هذا العصر الذهبي في صحراء النوبة جدلا موسعا ومفيدا في اوساط علماء المصريات الذين قالوا إن ملوك وفراعنة المصريين القدماء من الملك توت عنخ آمون الى الملكة كليوبترا كانوا أفارقة سوداً.

ويبين التراث القصصي والروائي لبطولات النوبيين أن حضارتهم تعود في جذورها الى اعماق افريقيا وانهم امتزجوا ثقافيا مع جيرانهم المصريين وتزاوجوا منهم ومعهم حيث إن جدة الملك توت عنخ آمون الملكة تايي والتي تنتمي الى الاسرة الفرعونية الثامنة عشرة تنحدر من أصول نوبية، كما أن المصريين لم يرغبوا في ان يكون لهم جيران أقوياء في الجنوب لا سيما انهم كانوا يعتمدون على ذهب النوبة لتمويل فتوحاتهم وحملاتهم العسكرية للسيطرة على غرب آسيا لذا قام ملوك الاسرة الثامنة عشرة من (1539-1292) بإرسال جيوشهم جنوبا للسيطرة على النوبة وبناء الحاميات والمواقع العسكرية فيها وعينوا حكاما ومسؤولين إداريين من النوبيين المحليين على المناطق التي أقاموا فيها المدارس لابناء النوبيين الذين بدأوا يتأثرون بالثقافة والعادات والتقاليد واساليب الحياة المصرية،وبنوا الاهرامات على الطريقة المصرية وباختصار كان النوبيون أول قوم يتمصرون في كل شيء ويصبحون مصريين في كل تفاصيل حياتهم روحاً وجوهراً وشكلاً ومضموناً أي يذوبون في ايجتومانيا. ويفسر علماء المصريات في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كل هذا بأنه علامة ضعف لدى النوبيين.

وفي القرن الثامن قبل الميلاد كانت مصر القديمة متشرذمة وممزقة بين قوى وجماعات متناحرة فالشمال يحكمه قادة ليبيون تقمصوا الثقافة والتقاليد الفرعونية في سبيل الحصول على القبول الشعبي والشرعية وسيطرت على كهنة المعبد في الكرنك مخاوف من انتشار ثقافة البعد عن الدين وتطلعوا الى الجنوب ليجدوا ضالتهم في النوبيين الذين اجتهدوا بكل ما في وسعهم للحفاظ على كل التراث الديني والروحي والثقافي وتطبيقه دون الذهاب الى مصر ليصبحوا مصريين اكثر من المصريين انفسهم، كما يقول عالم الآثار تيموثي كيندال من جامعة نورث إيسترن.

وبعد وفاة الملك بايي عام 715 ق.م عمل شقيقه الملك شاباكا على تدعيم وتقوية حكم العائلة الخامسة والعشرين بالانتقال للإقامة في العاصمة المصرية حينذاك ممفيس وألزم نفسه بقوة بأساليب الفراعنة وطرق تسييرهم وإدارتهم للامور واختار لنفسه اسم بيبي- الثاني أحد حكام الاسرة السادسة قديما أسوة بأخيه الراحل بايي الذي اختار لنفسه اسم تحتمس -الثالث وبدلا من إعدام خصومه قام الملك شاباكا بوضعهم في معسكرات وورش عمل لبناء الخنادق والجدران والقنوات لحماية القرى المصرية من فيضان نهر النيل، كما ازدهرت طيبة في عهد الملك شاباكا الذي أبدى اهتماما كبيرا وخاصا في الأقصر وخاصة معبد الكرنك ووضع لنفسه تمثالا عملاقا من الجرانيت وهو يعتمر التاج الكوشي. وفي الشرق كان الآشوريون يطوفون في فلسطين ويبنون القلاع والحصون ويسرعون الخطى في تقوية امبراطوريتهم في بداية القرن الثامن ق.م حيث قرر النوبيون التحرك لمواجهتهم والتقى الجيشان في مدينة إلتيكه في فلسطين وجرت معارك دامية قام الآشوريون بقيادة ملكهم سنحاريب خلالها بعمليات قتل وذبح جماعي كبيرة وألحقوا هزيمة غير ساحقة بالنوبيين والمصريين حيث نجا الامير تاهارقا ابن العشرين عاما نجل الفرعون النوبي بايي ليتسلم مقاليد الحكم من عمه شاباكا ويتم تتويجه في عام 690 ق.م ملكا على امبراطورية تمتد من طيبة شمالا الى نبطة- نباتا جنوبا حيث كان قد أصبح في الحادية والثلاثين من عمره وليستمر حكمه على مصر والنوبة 26 عاما قدم خلالها إنجازات كبيرة جعلت من حكمه فترة مميزة في حقبة العائلة الخامسة والعشرين وأضاف لنفسه تمثالا ضخما إضافة الى عشرة أعمدة بارتفاع 62 قدما في معبد الكرنك ومعظم هذه الأعمدة فقد معظم ارتفاعه وجسمه بفعل عوامل الزمن والطبيعة ووضع تماثيل عملاقة له ولوالدته أبار التي أحبها كثيرا حول معبد آمون في الكرنك.