عادي

«أطلس» صراعات المستقبل .. حروب نووية وصراعات إقليمية

03:21 صباحا
قراءة 16 دقيقة
إعداد: محمد هاني عطوي

استمرار ما يسمى بالسلام العالمي لا يعني بالضرورة عدم قيام حرب عالمية شاملة؛ فالتاريخ ما هو إلا سلسلة من الاضطرابات الجيوسياسية التي يفصلها الهدوء. وظاهرة مثل انهيار الاتحاد السوفييتي في فترة السلام، المشابهة لتلك التي شهدتها ألمانيا في العام 1918 مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تثبت أن كل شيء يبقى ممكنا ومحتملاً. وربما لن يحول العصر النووي دون حدوث انقلابات، وحروب، أو صدامات على مناطق مختلفة في مختلف قارات العالم، وربما يتطور الأمر إلى حرب نووية، أو يتوقف عند صراعات إقليمية بين القوى الكبرى لتثبيت زعامتها ومراكز نفوذها.
اليوم نعيش عصر الاضطرابات الكبرى في النظام الجيوسياسي الدولي الذي هو ثمرة لتطورات بطيئة، والتظاهر بالقدرة على التنبؤ بما سيكون عليه مسرح الصراع في المستقبل، والمناورات الرئيسية ونتائج المواجهات، قد يبدو أمراً جريئاً للغاية.
والمراقب للأمور عن كثب يلمح أن الصدامات المستقبلية ستكون على ثلاثة مسارح كبرى: أوروبا، وجنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط. وقد تبدو هذه التنبؤات متطرفة، أو حتى بعيدة المنال بالنسبة للذين اعتادوا على الاستقرار النسبي للعالم منذ عقود، وتحديداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، ولكن المستقبل سيكشف لنا الكثير، وعلينا أن ننتظر أو نتحرك لنمنع الكارثة، أو على اقل تقدير نحد من آثارها.

في البداية، يجب أن نضع في أذهاننا عدة نقاط رئيسية مهمة:

أولاً، يجب أن نتذكر أن الحروب العالمية لم تبدأ أبداً كحروب كبرى؛ فالذين يطلقون لها العنان يعتمدون دوماً على نزاع قصير ومحدود، قادر على منحهم مكاسب سريعة. ولذلك تتوقف الحروب الكبرى من أن تصبح غير محتملة الوقوع عندما تبدأ القوى العظمى بالنظر بجدية إلى إمكانية تعديل النظام القائم من خلال تدخل عسكري ما، مهما كان متواضعاً. وينبغي أن نعلم أن كل القادة لا ينظرون إلى الأمور بالطريقة نفسها، وكل الشعوب لا تحذو حذو غيرها، ولا تتماشى بالضرورة مع الطريقة الغربية لما بعد العام 1945 من ناحية التفكير في المصلحة الوطنية، والعلاقات الدولية. ولذلك يجب أن نكون حريصين على عدم تجاهل بعض الافتراضات بدعوى أنها تبدو متناقضة في ضوء المصلحة الاقتصادية المباشرة. ولنفكر مثلاً في المقولة المتكررة التي نسمعها ربما ألف مرة، بأن حرباً بين الصين والولايات المتحدة مستبعدة بسبب ترابطهما الاقتصادي.
هذا المنطق ربما يكون صحيحاً بالنسبة لأوروبي يعيش في بداية القرن الحادي والعشرين، لكنه لم يكن صالحاً بالنسبة للأوروبيين الذين عاشوا في عام 1914 والذين لم يكن ترابطهم الاقتصادي أقل من ذلك لا بالأمس، ولا حتى اليوم، بسبب العديد من القوى الناشئة، لا سيما في آسيا.
ومن الضروري التخلص من الوهم بأن الحرب ستكون أقل احتمالاً طالما استمر السلام فترة طويلة، فسنوات السلام الطويلة المستمرة منذ العام 1991 التي لم تكن فقط من دون مواجهة مسلحة بين القوى العظمى، شهدت تغيراً عميقاً في ميزان القوى. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يحكم منذ عقدين، بنى على أنقاض الإمبراطورية السوفييتية أكبر قوة شخصية عرفتها البلاد منذ وفاة ستالين، وأعاد إحياء القوة العسكرية الروسية، وبناء القوة الوطنية الأولى في أوروبا.
في المقابل نجد أن الصين التي كان ناتجها المحلي الإجمالي في العام 1991 يقل بنسبة 7% عن الولايات المتحدة، قد حسنت من ناتجها المحلي الإجمالي ليصل إلى ما يقرب من 65%، وزادت ميزانيتها العسكرية 10 أضعاف، وارتفعت إلى أعلى مرتبة لها في آسيا دولة متطورة، متجاوزة إلى حد كبير، بسبب وزنها «التنانين الأربعة» التي كنا نعجب بصعودها الكبير في التسعينات. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد استخدمت مكانتها السياسية والعسكرية، إضافة إلى مواردها المالية، في حروب دنيئة ومدمرة في الشرق الأوسط، بينما بدأ الإسلام السياسي الراديكالي يتقدم بشكل رهيب؛ فضلاً عن ذلك فقدت الولايات المتحدة الكثير من تفوقها التكنولوجي مقارنة مع الصين، والروس. وعلى المستوى العالمي، أدى التحول الرقمي في العالم إلى ظهور أسلحة جديدة وتهديدات جديدة لا يزال نطاقها غير مفهوم بشكل جيد.
وربما يكون من السذاجة الاعتقاد أن البنية الفوقية للنظام الدولي يمكن أن تظل مستقرة عندما يخضع ميزان القوى لمثل هذا التطور؛ فاليوم، باتت القوى الناشئة أو المنافسة لأمريكا تطالب بحقها في نشر هيمنتها على مساحات واسعة، والتسبب عن طريق الانقلابات بمراجعة النموذج العالمي لمصلحتها بحجة «التعددية القطبية».

حلف شمال الأطلسي وروسيا

السنوات الماضية شهدت تنامي النفوذ والطموحات الروسية، حيث شهد العالم غزو جورجيا في العام 2008، وضم شبه جزيرة القرم في العام 2014 ودعم موسكو لانفصاليي دونباس، وتشير دلائل أخرى إلى أن موسكو لا تستبعد القيام بعمليات عسكرية ضد «الناتو» من أجل إضعافه، وزيادة نفوذها في أوروبا. ولذا أعاد فلاديمير بوتين في العام 2015 تكوين الجيش الأول المدرع، وهو القوة الهجومية التي تم حلها في العام 1998. ويبلغ تعداد ترسانة القوة الجديدة ما بين 500 و600 دبابة، و600 و800 ناقلة جند مدرعة، و300- 400 قطعة مدفعية و35 ألفاً إلى 50 ألف جندي.
وفي نوفمبر/‏‏‏ تشرين الثاني 2016، قررت روسيا تحديث أسطولها من دبابات T-80، ليصل إلى نحو 3 آلاف وحدة. وشرح خبراء عسكريون غربيون بشيء من الاطمئنان، أن هذا القرار يدل على صعوبات يواجهها الكرملين تضطره إلى إعادة استخدام مدرعات قديمة، بدلاً من الاعتماد كلياً على دبابة (Armata) المكلفة، وهي دبابة جديدة من الجيل الثالث يتباهى بها الروس، ويروجون لها بانتظام، وقد بدأ إنتاجها بكميات كبيرة هذا العام. ويجب أن نعلم أنه مع هذه العودة إلى الخدمة فإن روسيا ستكون على رأس أسطول مدرع تشغيلي أكثر أهمية من جميع دول حلف شمال الأطلسي في أوروبا، وبالطبع علينا أن نتذكر أن هذه الدبابة هي سلاح هجومي في جوهره.
في نوفمبر من العام 2016، نقلت روسيا بطاريات لصواريخ اسكندر (ذات قدرة نووية ولكن أيضاً فعالة جداً في نسختها التقليدية المزودة برؤوس متعددة لضرب تجمعات العدو) إلى جيب كالينينجراد، تحت ستار إجراء مناورات. وقد باتت الآن قادرة على الوصول إلى الشمال الشرقي لبولندا، وممر سوالكي، وهو شريط من الأراضي بين روسيا وكالينينجراد وطريق المواصلات البري الوحيد بين دول البلطيق وبقية حلف شمال الأطلسي.
ولا شك في أن أكبر الشكوك تمحورت حول تدريبات زاباد 2017، وهي آخر نسخة من نوعها للمناورات التي كانت موجودة أيام الاتحاد السوفييتي والتي أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دمجها في بدايات العام 2000. وقد أجريت العمليات من 14 إلى 20 سبتمبر/‏‏‏ أيلول 2017 في بيلاروسيا، في جيب كالينينجراد، وعلى الأراضي الروسية المتاخمة لدول البلطيق. وأعلنت موسكو أن هذه العملية تطلبت مشاركة أقل من 12700 جندي في المجمل، وهي تقديرات خيالية، حسب بعض المصادر.
أما الإحصاءات الرسمية للعام 2017، الصادرة عن وزارة الدفاع الروسية في نهاية العام 2016، فأعلنت عن إرسال شحنة إلى روسيا البيضاء قوامها 4162 عربة نقل عسكرية، أي أكثر بثمانين مرة عن العام 2016 (50 عربة) وعلى التوالي أكثر بثلاثين مرة (125 عربة)، وعشرين مرة (200 عربة)، من تدريبي زاباد السابقين في العام 2015 و2013. وفي هذا العام، شارك نحو 12 ألف جندي في هذه المناورات.
ولا نرى لماذا تحتاج روسيا إلى 20 ضعفاً من وسائل النقل بالسكك الحديدية في العام 2017 لتوظيف عدد أقل من الجنود. وحتى لو اكتفينا بالتفسير الذي قدمته وزارة الدفاع، بأن ال4 آلاف عربة هي (للذهاب والإياب) فإن ذلك لا يزال يزيد بعشرة أضعاف على العام . ويعتقد معظم المحللون أن هذه التدريبات تطلبت مشاركة أكثر من (مئة ألف جندي روسي)، وربما ساهمت في إخفاء عملية نقل كميات كبيرة من المواد على الأراضي البيلاروسية. وبالطبع، ستبقي روسيا على هذه المواد في موقعها تحسباً لاستخدامها في المستقبل، ومن الممكن أن يتراوح استخدامها بين التهديد بجعل القوات الهجومية على أهبة الاستعداد للحرب على الحدود بين دول حلف شمال الأطلسي - البيلاروسية، وصولاً إلى الغزو السافر، والبسيط لدول البلطيق. وصرح الجنرال التشيكي بيتر بافل، رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، بكل صراحة في 16 سبتمبر/‏ أيلول الماضي: «ما نراه هو الإعداد بجدية لحرب كبيرة»، وبفضل هذا الانتشار، يعزز الكرملين سيطرته على بيلاروسيا التي أعرب رئيسها لوكاشنكو مؤخراً عن رغبته في الحصول على حكم ذاتي.
وفي 20 سبتمبر عام 2017، أعلنت صحيفة «برافدا» الروسية، أن وزارة الدفاع تعمل على الإعداد لقانون يسهل تجنيد العامة زمن الحرب، ولا شك في أن غزو دول البلطيق الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي، من شأنه أن يثير حرباً بين روسيا وجميع الدول الأعضاء في التحالف، وفقاً للمادة 5 من معاهدة واشنطن، مع خطر انفجار صراع نووي. هذا الأمر دفع معظم المعلقين للإشارة إلى أن هذا التدخل غير محتمل إلى حد كبير، ويعني ذلك أن نتجاهل تطور عقيدة استخدام الأسلحة النووية في ظل حكم فلاديمير بوتين، وتاريخ الفكر الاستراتيجي الروسي منذ السبعينات (1970). والواقع أن خبرة الروس في طمس نواياهم قاد بعض المحللين للحديث عن «الابتزاز النووي» أثناء ضم القرم، وقد بين بوتين في تقرير دعائي، أنه مستعد لوضع القوة النووية في حالة تأهب. ولذا يبدو أن روسيا تريد استخدام الردع النووي بطريقة جديدة، ليس لردع العدو عن مهاجمتها، ولكن لتغطية الهجوم معتمدة على حقيقة مضمونها أن الخصم سوف يرضخ في نهاية المطاف.

الحسابات الاستراتيجية لبوتين

ربما يكون الحساب الاستراتيجي للرئيس الروسي أن يقلب موازين القوى والنظام السياسي في القارة القديمة، وهي عملية حسابية منطقية، يمكن تحقيقها طالما أنها تستبعد خطر نشوب حرب نووية، وهذا ما يفسر على وجه التحديد، عدم نشوب أي حرب في أوروبا منذ العام 1945. ولكن هذا الحساب يستند إلى فرضية محفوفة بالمخاطر، وهي اليقين من أن الغربيين سيقبلون بفقدان دول البلطيق بدلاً من خطر نشوب حرب نووية، والسعي إلى كسبها مرة أخرى. وربما ينطبق هذا على الأوروبيين، لكن من غير المحتمل أن تقبل أمريكا أن توجه لها ضربة قاتلة كشرطي للعالم من خلال إضعاف «الناتو».
وفي هذا الإطار، أدلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبعض المسؤولين في الحزب الجمهوري، بتصريحات غامضة حول دول البلطيق، مشيرين إلى أن دعم بلادهم لهذه الدول في حالة نشوب الحرب لن يتحقق بالضرورة. ومع ذلك، حاولت زيارة مايك بنس، إلى تالين في يوليو/‏‏‏ تموز الماضي طمأنة هؤلاء الحلفاء المتاخمين لروسيا. والواقع أن تخلي الولايات المتحدة عن مبدأ «أميرة الأمم» الذي وضعته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يعني أن تضع نفسها في حالة اعتماد على نظام عالمي لن تكون هي وحدها من يحدده، وهو أمر غير مقبول لها، بوتين، مثله مثل الزعماء الصينيين، يعمل في منطق مختلف تماماً، فهو يؤمن بلعبة القوة، وتوازن القوى والحل الوسط المتأرج وفق هذه القواعد.
إن فهم بوتين للعالم سيدفعه إلى الاعتماد على تراجع للناتو، وهو أمر لا تستطيع واشنطن قبوله، وستؤول العواقب نحو المواجهة التي قد تكون طويلة، بين الولايات المتحدة وروسيا على الأرض الأوروبية، كما سيتم تعزيز الوجود العسكري الأمريكي، خاصة في بولندا، وستتضاعف الصراعات، وتستعر الحرب الإلكترونية الشاملة اللهم إذا قررت الولايات المتحدة في النهاية الرد على الابتزاز النووي الروسي من خلال تكييف عقيدة استخدامه والقيام باستعادة تقليدية لدول البلطيق، مع خطر نشوب حرب نووية.

الأزمة الكورية والقوة الصينية

على الرغم من أن الاهتمام الدولي والإعلامي يركز الآن، وبشكل أساسي، على كوريا الشمالية، إلا أن هذه الأخيرة لا يبدو أنها ستكون مركز ثقل النزاعات الآسيوية المستقبلية.
فهناك الصين والهند، قوتان بارزتان على الساحة العالمية، فبينما تصبح الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتطور جيشًا وأسطولًا قوياً (من المقدر أن يتم التوصل إلى التكافؤ البحري العسكري مع الولايات المتحدة، عددياً في العام 2020) وهو ما سيسمح لها بالعودة إلى وضعها كالقوة التاريخية الأولى لآسيا، لتمتد قبضتها من شرق الباسيفيك إلى شواطئ إفريقيا، يظهر لها منافس يهددها في جميع المجالات وهو الهند، فلأول مرة في التاريخ الحديث، يتجاوز النمو الهندي مثيله الصيني في العام 2017. أما بالنسبة للسكان الهنود، فمن المتوقع أن يتجاوز عدد السكان الصينيين في العام 2022. ووفقا لبعض التقديرات، فإن هذا سيحدث بالفعل خلال بضعة أشهر قادمة. والمثال الصارخ حول ذلك هو أن فوكسكون، وهي الشركة التايوانية التي ترمز إلى الازدهار الصيني، بدأت مشروعاً استثمارياً في الهند، حيث الأجور منخفضة.
وتبين جميع المؤشرات أنه خلال السنوات العشرين القادمة ستلحق الهند بالصين وتطابقها من الناحية الاقتصادية، خاصة أنها تفوقها بشكل واضح ببضع مئات من الملايين من الناحية الديموغرافية.
ومن هنا، يمكننا أن نفهم قلق قادة بكين. فهم يدركون أن نافذة الأمل بتأسيس هيمنة صينية دائمة التي ينظر إليها على أنها ضرورة للأمن القومي، تضيق، كما أن الوقت يسير ضدهم. ففي الصين، تمثل الفئة العمرية 15-24 سنة نحو 190 مليون نسمة، منهم 100 مليون رجل و90 مليون امرأة فقط. والنسبة هي نفسها بالنسبة للفئة العمرية 25-34 سنة. وفي نهاية المطاف، فإن هذا الخلل سيؤثر بشدة، في معدل المواليد، ويؤدي إلى تسارع معدل شيخوخة السكان.
ويمكن أن تختار النخبة الصينية استخدام هذا المجال الضيق، وإشراك هذه الثروة البشرية التي تمتلكها للحصول من خلال صراع ما، أو سلسلة من الصراعات التي تأمل أن تكون موجزة ومحدودة، على موقع مهيمن بما فيه الكفاية لتكون بمأمن من الصعود الهندي.

استراتيجية سلسلة اللآلئ

هي تعبير يشير إلى إقامة نقاط دعم تابعة للبحرية الصينية «اللآلئ» على طول طريق الإمداد البحري الرئيسي نحو الشرق الأوسط. وبالنسبة للصين، تتمثل الاستراتيجية في بناء، أو شراء، أو استئجار ولفترات طويلة، مرافق لموانئ ولمطارات تصل حتى إفريقيا، لحماية مصالحها التجارية في بحر الصين الجنوبي وفي خليج البنغال والبحر الأحمر.
ويبدو للمحللين أن الحروب التي تم تصورها في الأصل على أنها تدوم لفترة قصيرة، تميل بقوة نحو الركود، خاصة عندما تقودها دول كبيرة ذات نسبة سكانية عالية. فاليابان الإمبراطورية التي كانت تحتل في بداية القرن العشرين نفس موقع بكين اليوم، ارتكبت بالضبط الخطأ نفسه ضد الصين في ذلك الوقت. وبالطريقة نفسها التي دعم بها الأمريكيون الصين، من المرجح أنهم سيقفون وراء الهند، وقد حدث تقارب بين الدولتين مؤخراً، وبشكل واضح. ومن هنا، فإن حرباً صينية هندية واسعة النطاق ستتيح للولايات المتحدة الفرصة لاستنفاد القوة الصينية الجديدة عسكرياً من خلال توفير المعدات للهند. لكن دعمها لن يذهب أبعد من ذلك لأنه من جهة، لا يوجد تحالف عسكري بين نيودلهي وواشنطن، ومن جهة أخرى، ليس لها مصلحة في أن تصبح الهند قوية للغاية.

الفوضى في الشرق الأوسط

تختلف منطقة الشرق الأوسط عن المسرحين الأخيرين من خلال أولوية الأزمة التي ضربتها: ففي العام 2011، افتتح ما يسمى «الربيع العربي» المرحلة الثانية من التاريخ الحديث للإسلام السياسي، حيث تعود المرحلة الأولى إلى العام 1979، أي إلى فترة الغزو السوفييتي لأفغانستان، والثورة الإيرانية واحتجاز الرهائن في المسجد الحرام بمكة. ويمكن القول إن الفوضى التي هيمنت على جزء كبير من المنطقة: ليبيا وسوريا والعراق واليمن، تغذيها بلا شك الصراعات المحلية للقوى الإقليمية (تركيا وإيران وقطر) التي تحاول دفع بيادقها كي تتصادم في مجموعات متعارضة.
ويبدو أن ظهور صراعات كبيرة بين القوى الكبرى في أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ لن يمر من دون عواقب على مستوى التوازن النسبي السائد في الشرق الأوسط. ومن المرجح أن الإغراءات المكبوحة بسبب حضور الشرطي الأمريكي ستنهار بمجرد أن يقع هذا الأخير أسيراً بين «قطعتين كبيرتين»، لاسيما في ما يتعلق بالتوترات القائمة بين إيران (حليفة روسيا) وبعض دول الخليج (القريبة من واشنطن). وحتى الآن، تتواجه هاتان القوتان الإقليميتان بشكل غير مباشر في سوريا واليمن، ولكن ما أن يحدث انسحاب أمريكي من هذه المنطقة، فإن المواجهة يمكن أن تصبح مباشرة.
ويذكرنا هذا بالطريقة نفسها التي لجأ إليها موسوليني حين استغل الصعوبات البريطانية والفرنسية لمهاجمة اليونان في العام 1940. هذا العدوان لم يكن ليحدث لو كانت القوى العظمى في ذلك الوقت (فرنسا والإمبراطورية البريطانية) تمتلك كامل إمكاناتها. وفي مثل هذا النزاع، ستحاول إيران أن تضع يدها على الضفة الغربية لبحر العرب، وهي المنطقة الرئيسية المنتجة للنفط في البلاد، وموطن الأقلية الشيعية العربية.
وبالنظر إلى هذه الحقيقة فإن إيران ستستدعي «حزب الله» وإمكاناته في أي عملية عسكرية يمكن أن تشنها ضد «إسرائيل» على المدى البعيد، إذا كان ذلك ضمن خططها، وبالطبع سيؤدي هذا إلى صراع أكثر خطورة من ذلك الذي حدث في العام 2006، «فحزب الله» لا يتواجد فقط في لبنان، بل في جنوب سوريا أيضاً، ويمكنه إطلاق الصواريخ على «إسرائيل». من جانبه، ستجد «إسرائيل» نفسها في حالة حرب، ليس فقط ضد «حزب الله» بل ضد سوريا. ولذا تدرس الحكومة الإسرائيلية بالفعل هذا السيناريو الذي سيوقعها في خطر صراع متزامن مع حركة «حماس»، وبعض الأطراف الداخلية في فلسطين.

موقف تركيا

في هذا الجو المكفهر، يتساءل المرء ما هو الموقف الذي ستتبناه الدولة التركية لمواجهة هذه التطورات؟، الواقع أنه من الصعب الإجابة في ضوء تقاربها الأخير مع موسكو. فخلال انقلاب يوليو/‏‏‏ تموز 2016، لم ينظر رجب طيب أردوغان بعين الرضا لرد الفعل المتأخر والمشوش من الحكومات الغربية التي من دون أن تتمكن من التعبير عنه، نظرت بدورها بعين الرضا لعملية إطاحة «السلطان». من جانبه، لا يشارك أردوغان الغربيين التزامهم تجاه الأكراد على الأراضي السورية. ولكن خوف أردوغان من رؤية تزايد قوة إيران، وهو الأمر الأشد بالنسبة له، سيدفعه لأسباب جيواستراتيجية بحتة، إلى الوقوف إلى الجانب الأمريكي والأوروبي، مقابل تخليهم عن دعمهم للقضية الكردية. وهكذا سيظهر أردوغان باعتباره الفائز الإقليمي الكبير في الحرب، وسيستفيد استفادة كاملة من الانسحاب الروسي الصيني من المناطق الناطقة باللغة التركية. هذه المناورة ستكمل عملية تحوله إلى ما يشبه «ستالين الإسلاميين». وسيشكل مجال النفوذ التركي بلا شك تكتلاً معادياً للنظام الأمريكي، لكن يجب أن يبقى هذا المجال محصوراً على الخاصرة الجنوبية من خلال الحفاظ على القوة «الإسرائيلية»، أما إيران التي قد لا ينجو نظامها من هزيمة، فسيعاد دمجها ضمن التحالف الأمريكي في نهاية المطاف، خاصة إذا بدأت بتحول ديمقراطي حقيقي.
وعلى طريقة الصراعات العالمية التي سبقتها، ستنتشر الحرب القادمة على مختلف مسارح العمليات المتقاربة، وكل نزاع جديد سيقلل من قدرة شرطي العالم - أمريكا - للحفاظ على النظام لمجرد الردع فقط. ولكن على الرغم من تأثير كرة الثلج هذه، فمن المحتمل جداً، أن تنتصر الولايات المتحدة جراء تفوقها التقليدي في النهاية على القوة الروسية والصينية، وتوسع نفوذها على جزء كبير من العالم.
وتبقى الإشارة إلى متغير مختلف، وهو أن فشل السياسات التوسعية قد يثير في روسيا والصين أزمة نظام، أو انهياراً سياسياً مماثلاً كذلك الذي شهده الاتحاد السوفييتي في السابق. وبالتالي، فإن النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب ستهيمن عليه أكثر من أي وقت مضى الولايات المتحدة، مع إمكانية كبيرة لدمج روسيا والصين في نظام التحالف الأمريكي، كما حدث ذلك سابقاً مع ألمانيا واليابان.

قوة الإسلام السياسي

ضمن هذا المناخ يبدو أن تهديد الإسلام السياسي، سوف يكون ماثلاً في الوقت نفسه، ولكنه سيكون أكثر تنظيماً، كما كانت الشيوعية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، مع ظهور أحزاب مستوحاة من فكر الإخوان المسلمين، بما في ذلك في دول أوروبا الغربية، ذات الأقلية المسلمة الكبيرة. وسيتم تحفيز هذا التطور من خلال صعود تركيا كقطب مهيمن في الإسلام السياسي، التي ستلعب دوراً تنسيقياً وتمويلياً مماثلاً لما فعله الاتحاد السوفييتي سابقاً. نحو هذه الحركة المناهضة لأمريكا سيحدث التقارب بين جميع المستائين من النظام العالمي. ومن المرجح أن يكون هذا العداء الجديد لأمريكا محورياً في تكوين النموذج الدولي المقبل.
وبطبيعة الحال، من المستحيل التنبؤ بتاريخ التحول إلى الحرب، وبالنظر إلى المتغيرات المختلفة، وتحديداً عصر فلاديمير بوتين وحلفائه، الذين كانوا ينضوون في إطار القوة السوفيتية السابقة، والوضع الاستراتيجي للصين مقارنة مع الهند، أو عملية تسليح هاتين القوتين العظيمتين، كل ذلك يجعلنا نفترض أننا في السنوات العشر القادمة سندخل منطقة ذات مخاطر قصوى. ومن المأمول على الأرجح أن يتخذ القادة الأمريكيون والأوروبيون الإجراءات لردع أي مغامرة روسية في دول البلطيق، واستباق مناورات الصين في مجال عدوها القريب. ولكن أيضاً عليهم الاستعداد لاحتمالات أخرى كالضربات الروسية والصينية على جبهاتهم، من أجل الحد قدر الإمكان من نجاحاتهم الأولية فيما لو وقعت حرب. فالكل يعلم كم أثرت المعارك الأولى في استمرار الصراعات التي قاموا بالبدء بها. فهتلر لم يكن ليبقى طويلاً لو لم يتمكن من نهب فرنسا، ولا اليابان لو لم يكن لديها إمكانية الوصول إلى المواد الخام في المستعمرات البريطانية التي تم غزوها. ويمكننا في نهاية الأمر أن نقول إنه لا يمكننا منع الحركات التكتونية للكرة الأرضية، لكن يمكننا من خلال الوقاية المناسبة، الحد من حجم الضرر، وعدد الضحايا الذي يمكن أن تتسبب به هذه الحروب على مستقبل البشرية.

موازين القوى لروسيا

في سبعينات القرن الماضي، اصطدم التفكير الاستراتيجي بالمبدأ التالي: «الحرب النووية هي ضمان للدمار المتبادل». ولذا سعى المفكرون العسكريون السوفييت للالتفاف على هذا المبدأ، وتوصلوا إلى استنتاج مفاده أنه من الممكن شن حرب ناجحة، ولكن ليست نووية، شريطة ضرب أهداف استراتيجية محدودة فقط، باستخدام أدوات تقليدية، بحيث يفضل الخصم الهزيمة كي تقوده إلى تنازلات استراتيجية مهمة بدلاً من السعي وراء الحرب والتصعيد الذري. في ذلك الوقت، كان هناك حديث عن غزو تقليدي لألمانيا الغربية وحدها، وكان ذلك كفيلاً بأن يؤدي إلى انهيار الناتو.
منذ أيام، تمت مناقشة هذا السيناريو نفسه في الكرملين، وقد جرت الاستعاضة عن ألمانيا الغربية باستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا: فالروس يعرفون أنهم قادرون على الاستيلاء بسرعة على دول البلطيق قبل أن يكون لحلف شمال الأطلسي الوقت للرد. هذا الغزو لا يعني استخدام أي سلاح نووي. لكن من ناحية أخرى، وخلافاً للوضع في ألمانيا الغربية في السبعينات 1970 والثمانينات 1980 فإن موازين القوى في المنطقة تميل بوضوح لمصلحة الروس. فالخبراء الغربيون يعتقدون أن الأمر سيستغرق منهم ما بين ثلاثة إلى خمسة أيام للسيطرة على هذه الدول الثلاث. ولا شك في أن نجاح الحركة الأولى مؤكد، مقارنة مع الحركة العشوائية إلى حد التي حدثت قبل أربعين عاماً. ولذا فالرد الوحيد على الروس سيكون وضع القوات الأمريكية في حالة تأهب قصوى، والتهديد بتوجيه ضربة نووية إلى روسيا. هذا القرار سيكون صعباً من الناحية السياسية، خصوصاً أن أراضي الولايات المتحدة لن تكون معرضة للتهديد، فضلاً عن أن روسيا سوف تدفع نحو التساهل على أساس أن طموحاتها - «المبررة» مقدماً من خلال حملة التضليل - لا تخص سوى دول البلطيق، كما أن أعضاء "الناتو" الأوروبيين سيكونون مترددين بشأن ما يجب القيام به.
باختصار، فإن مسألة ما إذا كانت دول البلطيق تستحق، في نظر أوروبا وأمريكا، المخاطرة بحرب نووية، ستعطي الحق لبوتين كي يفكر شرعياً في أن الجواب هو «لا»، أو على الأقل سيسمح له تردد الحلفاء بوضعهم أمام الأمر الواقع. فبعد بضعة أيام، وعندما يظهر أن الأمر لا يتعلق بالدفاع عن دول البلطيق فقط، بل بغزوها، سيفضل الحلفاء إيجاد ترتيب معين لأنهم يعرفون أنه بمجرد حدوث أي عدوان تقليدي ضد أراضي الاتحاد الروسي - التي تنتمي إليها دول البلطيق بعد ضمها - فإن عقيدة الروسي لا تستبعد أي رد، بما في ذلك الرد النووي.
ولو حدث ذلك فإن روسيا ستواجه عقوبات اقتصادية ثقيلة، ولكن بعد ثلاث سنوات من ضم شبه جزيرة القرم، سيكون بوتين على قناعة من قدرة بلاده على مواجهة هذه التدابير، وسيقدر بلا شك أن ذلك ربما يكون ثمناً معقولاً كي يدفعه مقارنة مع الربح الاستراتيجي الزهيد. ومن خلال الكشف عن عدم قدرة "الناتو" على القيام بما كان عليه فعله، وهو ما وجد له أصلاً، فإن ضم دول البلطيق سيلقي بثقله على هذه المنظمة التي باتت ذات سمعة سيئة، وسيوجه ذلك ضربة رهيبة للاتحاد الأوروبي.
لقد حلمت روسيا دائماً بأن ترى تفكك هذه البنية الدولية من أجل السيطرة على أوروبا من خلال المفاوضات الثنائية، بين دولة وأخرى. والحقيقة أن التهديدات العسكرية كتلك التي تم تداولها في وسائل الإعلام الرسمية الروسية في العام 2014، والحديث عن دخول جديد للدبابات الروسية إلى برلين، كان سيكون لها وزن ومصداقية أكبر في مواجهة حلف شمال أطلسي فاشل، واتحاد أوروبي مهين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"