عادي

روسيا بين الاحترام والقطبية ... 4-4

02:59 صباحا
قراءة 15 دقيقة

هل تبحث روسيا عن نفسها الآن؟ وهل هزّت رأسها بالفعل لكي تستفيق على وضعها الحالي بالمقارنة مع ماضيها التليد عندما كانت كاترينا وبطرس الأكبر، وعندما كان الاتحاد السوفييتي يهز عصاه في موسكو فيقف العالم؟ هل يبحث الروس قيادة وشعباً عن مكان لهم في هذا العالم، أم عن مكانة مرّغها الضعف والفقر في التراب؟ يقول مراقبون ومحللون إن الدب الروسي قد ملّ البرد، ويريد الاستدفاء بمناطق أخرى في العالم، أو ربما كره الاستضعاف فيبحث عن وسيلة لإمضاء أنيابه .

إعادة بناء الجيش أهم أولويات ميدفيديف

أدرك قادة روسيا قبل الحرب على جورجيا أن قواتهم وترسانة أسلحتهم الاستراتيجية والتقليدية بحاجة إلى تحديث، وبدأوا برنامجا، كما أشرت سالفا، لإعادة بناء الجيش وإعادة تسليحه بأسلحة حديثة . كان الجيش الروسي يواجه خطرا بسبب قدم أسلحته، وتضاؤل فعاليتها أمام التطورات التقنية الضخمة التي شهدتها الجيوش الغربية بخاصة الجيش الأمريكي . أي أن المسألة ليست استراتيجية عسكرية جديدة بقدر ما هي ضرورة لا مفر منها إذا أرادت أن تحتفظ بقوة ردع . وضع الجيش الروسي غير المريح كان ظاهرا في الشيشان إذ كانت حركة القوات البرية بطيئة ومتثاقلة .

CNN تقول في تقرير لها إن روسيا أخذت درسا من حربها على جورجيا وهو أنها غير متطورة عسكريا في مجالي الاتصالات والطيران . لقد احتاجت روسيا خمسة أيام لكي تقضي على دفاعات جورجيا الجوية، وهذه مدة طويلة بخاصة أن جورجيا دولة صغيرة وضعيفة . وقد قال الرئيس الروسي إن تحديث القدرة العسكرية قد بدأ، وأن انخفاض أسعار النفط لن يؤثر في خططه بهذا الاتجاه . وقال إن روسيا ستكون قد حدثت جيشها في عام 2020 . (CNN, Russia Announces Major Arms Buildup) هذا تقرير ليس بعيدا عن الحقيقة، إذ إنه من الواضح أن روسيا تفتقر إلى تقنية حديثة متطورة تنافس تقنية الأسلحة التقليدية الغربية بخاصة في مجال الطيران وأسلحة الدفاع الإلكترونية مثل مضادات الدبابات والطيران . وهذه مسألة تمتد جذورها إلى الاتحاد السوفييتي الذي كان يعتمد تكتيك الاعتماد على الجندي وعلى أعداد الآليات الكبيرة لمواجهة التقنية الغربية . لقد احتاجت روسيا فترة طويلة نسبيا في قتالها لجورجيا، وهي فترة لا تتناسب مع الهيبة العسكرية لدولة نووية مثل روسيا . ويبدو أن الروس قد ركزو تقنية متطورة حتى الآن في مجالي الأسلحة النووية والفضاء، لكنهم لم يعتنوا جيدا بتقنية الأسلحة التقليدية، علما أن تقنية متطورة في هذا المجال يمكن أن تفيدهم اقتصاديا من ناحية مبيعات الأسلحة .

يقول أحد الباحثين إن روسيا ليست مهتمة الآن بمسألة تحسن العلاقات مع الولايات المتحدة، ولا هي مهتمة بمن الرئيس . هي مهتمة بإعادة بناء جيشها، وقد أعلن ميدفيديف أن الأولوية لدى روسيا هي إعادة بناء الجيش وتزويده بأفضل أنظمة التسليح، ومن المحتمل أن ترفع روسيا نفقاتها العسكرية عام 2009 بما يرواح 30% . (Peter Brookes, the New York Post) هذا تحليل صحيح إذا ارادت روسيا أن تعود إلى القيادة العالمية من جديد من حيث إن دخول القوي ليس كدخول الضعيف، ومن المهم أن تثبت بأنها ندّ عسكري قوي للولايات المتحدة إذا أرادت أن تكون مسموعة . الحقيقة التي ما زالت ماثلة امامنا أن السلاح والمال لهما قوة أكبر بكثير من القيم الإنسانية، وحتى أن تطبيق القيم الإنسانية يحتاج إلى قوة تسنده . القوي والثري يتمتع بنفوذ وتسمعه الأمم، أما الضعيف والفقير فصاحب يد سفلى لا يستطيع المشاركة في اتخاذ القرار إلا إذا أذن له .

روسيا تخطط لبناء جيل جديد من الصواريخ العابرة للقارات، والغواصات النووية، وربما لحاملات طائرات . وتقول الجارديان البريطانية إن وزير الدفاع الروسي قال إنه سيتم بناء 17 صاروخا من طراز توبول إم topol-m عام 2007 ويبدو أنه حصل، وأنه سيكون منها 34 صاروخا جديدا على قواعد ثابتة بالإضافة إلى 50 على حاملات متحركة . هذا فضلا عن أنها تملك الآن 40 من هذه الصواريخ والتي قال عنها الرئيس فلاديمير بوتين إنها قادرة على اختراق كل حواجز الاعتراض الصاروخي .

(Guardian, Russia Plans Major Military Buildup)

لا شك بأن روسيا عبارة عن دولة عظمى فيما يتعلق بالقوة النووية وأدوات إيصال الرؤوس والقنابل النووية، لكن المشوار أمامها ما زال طويلا فيما يتعلق بالأسلحة التقليدية المعتمدة على تقنية إلكترونية فعالة . اتضح في الشيشان وفي جورجيا أن الجيش الروسي بعيد في معداته عن الدول الغربية، وأن قدرته في ميدان المعركة متثاقلة، وتعرض جنوده لخطر أكبر من ذلك الذي يتعرض له الجندي الأمريكي أو الفرنسي . الجيش الروسي لا يتحرك على الأرض بالسرعة والكفاءة اللتين تتميز بهما الجيوش الحديثة، وهو بحاجة إلى الكثير من النفقات للتحديث .

يرى بعض المحللين أن روسيا ضعيفة تقنيا لأن تطورها مرتبط بمدخولاتها من النفط، وفي حال انهارت أسعار النفط فإن اقتصادها سينهار ومعها جمهورها . ومقارنة مع الولايات المتحدة، يبلغ إنتاج أمريكا المحلي عشرة أضعاف إنتاج روسيا، وتنفق على الدفاع سبعة أضعاف ما تنفقه روسيا .

(Kyle Atwell, Is Russia a Superpower? Cold War 11) ربما من الصعب أن تنهض النفقات الروسية العسكرية المتزايدة بالجيش الروسي بطريقة تنافس الجيوش الغربية، لكن القادة العسكريين يقولون إنهم يحصلون على أموال كافية لرفع درجة الاستعداد العسكري .

التحدي

روسيا لا تحمل لواء التحدي للغرب، ولا تطلق العنان لتصريحاتها التي يمكن أن توتر الأوضاع على الساحة الدولية، لكنها متعقلة وواضحة بشأن أمنها القومي واحترامها كدولة ذات شأن . ووفق ما يقول أحد الكتاب الأمريكيين، الحرب على جورجيا تثبت حرص روسيا على إبعاد التدخل الأمريكي بجيرانها أو مناطق نفوذها التقليدية، وعلى أمريكا أن تعترف بأن روسيا ما زالت قوة عظمى . ويضيف بأن فترة الانهيار بعد الحرب الباردة قد انتهت، والآن بدأت فترة النهوض . لروسيا مصالح يجب أن تحترم وعلى الولايات المتحدة أن تعي ذلك . على أمريكا أن تفتح حوارا مع روسيا، وأن تجمد مساعيها لضم أوكراينا وجورجيا إلى حلف الأطلسي . (Ronald Steel, a Superpower is Born) هذا تحليل دقيق ولا مغالاة فيه لأن أهل الغرب استهتروا كثيرا بروسيا، وحشروها في زاوية دون أن يتركوا لها خيارات .

يبدو أن روسيا تحاول من وراء الكواليس أن تُفهم الولايات المتحدة بأن التقنية العسكرية الروسية ليست متخلفة، وأن قدرتها على الإنتاج الوفير من الأسلحة الاستراتيجة جيدة وتستطيع منافسة القدرات الأمريكية . كما أن روسيا أعطت إشارات واضحة لأمريكا بأنها تعمل على إنتاج أجيال جديدة من الأسلحة التقليدية والاستراتيجية، وأن على أمريكا ألا تستسلم لما يمكن أن يكون وهما حول تخلف روسيا تقنيا . وكما نستطيع أن نستشف من التصريحات الروسية أنه تم بالفعل تطوير أجيال جديدة من الأسلحة، وهي جاهزة لتدخل مرحلة الإنتاج الكمي .

لم تترك روسيا الأمر في مجال الكلام والتصريحات، وإنما اتخذت خطوات عملية لكي تكون الرسالة واضحة . في أغسطس/ آب 2008 قامت روسيا بإرسال بعض قطعها البحرية الموجودة في البحر الأسود وعلى رأسها حاملة الطائرات الوحيدة التي لديها إلى شرق البحر الأبيض المتوسط والتي تحمل 47 طائرة سوخوي 33 و12 طائرة عمودية . . وقد أعلن بشار الأسد أن سوريا على استعداد لمنح روسيا قاعدة بحرية في طرطوس، ذلك للتذكير بالوجود السوفييتي في المتوسط . لم تفعل روسيا مثل هذا التحدي للأسطول السادس الأمريكي الذي يجوب البحر الأبيض المتوسط بحرية منذ انتهاء الحرب الباردة، وتعمدت أن تقوم سفنها الحربية ببعض التمارين مع الأسطول الإيطالي والفرنسي .

وحركت روسيا بعض سفنها في شمال شرق المحيط الأطلسي، وحلقت القاذفات الاستراتيجية النووية الروسية فوق سماء المنطقة مما دعا حلف الأطلسي إلى تحريك طائراته الاعتراضية .

(David Eshel, Russian Mediterranean Naval Buildup Challenges NATO) هذا ويخشى الغرب من أن تكون روسيا قد طورت أسلحة بحرية لا يكتشفها الرادار .

في 17/8/2007 نقلت رويترز عن بوتين قوله إن روسيا ستعود إلى إطلاق دوريات القاذفات الاستراتيجية، وذلك في تعليق له على تدريبات عسكرية مشتركة مع الصين ودول آسيا الوسطى . وقال إن روسيا علقت مثل هذه الدوريات مع بداية تسعينات القرن الماضي، لكن الأطراف الأخرى لم تفعل ذات الشيء . وقال إن روسيا قد حركت يوم 17/8/2007 14 قاذفة من سبع قواعد عسكرية .

(Reuters, Aug . 17, 2007)

على الرغم من أن روسيا قامت بإجراءات تشير إلى نوع من التحدي للولايات المتحدة، أو إلى إثبات الذات الروسية وتذكر العالم بأنها موجودة وقوية، إلا أنها لا تذهب بعيدا في بعض الأمور، وحتى أنها تبدو على انسجام مع الولايات المتحدة في بعض القضايا مثل المشروع الأمريكي حول مفاوضات القضية الفلسطينية، ودعم الدول المعارضة للسياسة الأمريكية . ومؤخرا، وافقت روسيا على رفع سقف العقوبات ضد كوريا الشمالية، وصوتت إلى جانب هذه العقوبات في مجلس الأمن بتاريخ 12/6/2009 .

حاولت روسيا ألا تختار طريق المواجهة المبكرة مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بالقضايا الدولية وعلى رأسها القضية الفلسطينية فصوتت لصالح المشروع الأمريكي الذي طُرح أمام مجلس الأمن، والذي يدعم عملية التفاوض بين العرب وإسرائيل، ويشيد بما تم تحقيقه حتى الآن . روسيا ليست بعيدة عن الموقف الأمريكي فيما يخص القضية الفلسطينية وهي عضو في الرباعية الدولية التي تتبنى خريطة الطريق، وهي لا تستطيع أن تأخذ موقفا أكثر صلابة من مواقف الجهات العربية المعنية بعملية التفاوض مع إسرائيل . الموقف الروسي هذا عبارة عن إشارة إلى مختلف الدول بأن روسيا لا تبحث عن مناطحة، ولا تتخذ مواقف العناد .

هذا وقد تميزت روسيا بأنها استقبلت خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وقام وزير خارجية روسيا باستقباله مؤخرا في دمشق على الرغم من معارضة إسرائيل وأمريكا لذلك . هذه تعتبر خطوة روسية متقدمة وتشكل إشارة للغرب بأنه من الممكن أن تتبع روسيا سياسة خاصة بها فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي .

من ناحية أخرى، روسيا لم تعقد العزم بعد على تقوية المتطلعين إليها عسكريا مثل إيران وسوريا وفنزويلا والمقاومة العراقية والفلسطينية واللبنانية . أعطت روسيا لهذه الدول دون المقاومة ابتسامات عريضة، وتعتبرها الآن من الدول الصديقة، لكنها لم تقدم المعدات العسكرية اللازمة التي يمكن أن تنقلها نقلة نوعية في مواجهة أعدائها، هذا باستثناء صواريخ ss300 المضادة للطائرات والتي من المحتمل أنها أعطيت لإيران . ماطلت روسيا طويلا في تسليم هذه الصواريخ لإيران، وما زال هناك تضارب حول حقيقة الأمر . ربما تدرك روسيا أن تسليح الدول التي لا ترضى عنها أمريكا يفتح الباب أمام احتدام الصراعات الإقليمية، الأمر الذي ترى روسيا بأنها ليست جاهزة له الآن . الدخول في هكذا صراعات مكلف اقتصاديا وماليا، ويشكل منطلقا لزوبعات دبلوماسية حادة . ومؤخرا، في يونيو/ حزيران 2009 عقدت روسيا صفقة طائرات إلكترونية من دون طيار مع إسرائيل . قررت أن تشتري روسيا عشر طائرات من إسرائيل، ووفق وسائل الإعلام، أخذت إسرائيل موافقة الولايات المتحدة على البيع . لم تفصح روسيا وإسرائيل عن شروط الصفقة، لكنه من غير المعقول ألا تطلب إسرائيل من روسيا بعض الأمور المتعلقة بإيران وسوريا . هل طلبت إسرائيل عدم تزويد هاتين الدولتين بصواريخ مضادة للطائرات أو بطائرات حديثة من طراز سوخوي؟ أنا لا أستبعد ذلك .

في هذا ما يعطي إشارة إلى أن روسيا تقيس الأمور بهدوء ووفق إمكاناتها، وأيضا وفق ما يمكن أن نسميه طموحاتها في الوقت الراهن، والتي هي طموحات متواضعة لا ترتقي أبدا إلى طموحات الولايات المتحدة في أمركة العالم . الذي يعمل على التضحية بمن يمكن أن يكونوا أصدقاءه، أو يماطل في تلبية طلباتهم لمصلحة جهة من المتوقع أن تكون في غير مصلحته أو مناوئة له يضع شكوكا على نواياه . اتهمت روسيا إسرائيل إبان الحرب على جورجيا بتزويد جورجيا بالسلاح، وها هي الآن تمد يدها ل إسرائيل وبموافقة القطب الأوحد في العالم . من هذا نرى بأن روسيا متباطئة، وهي ما زالت إما في طور التفكير بما تريد أن تفعل، أو في طور التنفيذ البطيء الذي يأخذ مختلف قدراتها بعين الاعتبار . إنما روسيا واضحة بشأن الدرع الصاروخية الأمريكية، وهي ستتخذ إجراءات قوية لمواجهتها على رأسها، كما ذكر سابقا، نشر صواريخ نووية روسية في كاليننغراد . وقد قال مساعد وزير الخارجية الروسي سيرجي ريبياكوف إن التقدم في محادثات تقليص الأسلحة النووية مرتبط بقرار أمريكا حول الدرع الصاروخية . أما بالنسبة لأمريكا يصعب عليها التراجع ذلك حتى لا تخيب ظن حلفائها بخاصة بولندا وتشيكا اللتين وافقت حكومتاهما على استضافة المنشآت الخاصة بالدرع . وهي لا تنفك تستعمل الورقة الإيرانية لتقول إنه ما دامت إيران تسعى إلى تصنيع القنبلة النووية فإن الدرع ضرورية، وهذا يعني الطلب غير المباشر من روسيا لصد إيران عن التصنيع النووي . (Philip Pan, Counting on a Reset With US)

لدى روسيا مشكلة مع فكرة إقامة الشراكة الشرقية مع الاتحاد الأوروبي (أوروبا الشرقية) والتي تشمل أوكرانيا، جورجيا، أذربيجان، أرمينيا، ميلدوفيا وبيلوروسيا . روسيا تقول إن مثل هذا التجمع يستهدف روسيا ومصالحها . الاتحاد الأوروبي لا يريد ضم هذه الدول الآن إليه، وإنما يريد إقامة علاقة شراكة معها، وهو ينوي زيادة مساعداته المالية لهذه الدول، ورفع مستوى المساعدات التقنية والفنية . (IrishTimes .com, May 22 2009) هذا مستفز بالنسبة لروسيا لأن ذلك يعني وجود الاتحاد على الحدود الروسية مباشرة . من ناحية أخرى، خففت روسيا من لهجتها حول أوروبا وحلف الأطلسي، وقررت العودة إلى التنسيق الأمني مع الحلف وذلك في يونيو/ حزيران 2009 .

لحل هذه المشاكل تقول روسيا إنه يجب وقف تمدد الاتحاد الأوروبي، ووقف تمدد الأطلسي، ووقف نشر الدرع، وإلا فإن المسألة ستدخل مرحلة التحدي، وروسيا لن تتهاون بأمنها القومي . وعليه، اقترحت روسيا ضرورة كتابة معاهدة أمنية جديدة مع أوروبا عقب إصرار الرئيس الأمريكي بوش على نشر الدرع الصاروخية ، وإصرار الأطلسي على ضم جورجيا وأوكرانيا . وقد بدأت روسيا بإقامة قواعد عسكرية في أوسيتيا الجنوبية وأنجوشيا . تقول المبادرة الروسية إنه يجب تحريم استعمال القوة في المنطقة الممتدة من فانكوفر في الوسط الأوروبي إلى فلاديفاستوك في الشرق الروسي .

Welle Staff, European Leaders Split on Russian Security Plan) (Deuschce

الأوروبيون منقسمون حتى الآن حول هذه المبادرة، ولا بد أنهم ينتظرون موقف الإدارة الأمريكية الجديدة بهذا الخصوص .

الاستنتاج

روسيا دولة عظمى من الناحية العسكرية، ولديها من الطاقات الإنسانية والموارد الطبيعية ما يؤهلها لتكون دولة عظمى، بل وقطبا فاعلا على الساحة الدولية . إنها لا تستطيع أن تعلن أنها ستكون قطبا ينافس أمريكا غدا، وهي بحاجة إلى الكثير من الجهد والوقت والمال لكي تعلن ذلك سواء ضمنا أو صراحة، والمسألة منوطة بعدد من العوامل على رأسها:

أولا: الرغبة الروسية:

هل ترغب روسيا في أن تكون دولة قطبية، أم مجرد دولة كبيرة لها احترامها في هذا العالم، وذات كلمة مسموعة في القضايا الدولية؟ تحدث قادة روسيا عن أنه لا يجوز أن تبقى الولايات المتحدة القطب الوحيد في هذا العالم، لكنهم لم يقولوا إنهم يريدون أن يكونوا القطب المنافس، أو الدولة التي تضع فرامل أمام هيمنة الولايات المتحدة . من الممكن أن يستنتج أحد بأن روسيا ترغب في أن تكون قطبا منافسا، لكن عليه أن ينظر إلى الإمكانيات المتوفرة الآن والمتاحة مستقبلا قبل أن يخلص إلى أن روسيا لديها القدرة لتحقيق رغبتها .

ليس من المتوقع أن يقف الرئيس الروسي أمام العدسات ليعلن روسيا دولة قطبية، لكن مجمل السياسات تقود إلى الاستنتاج حول ما ترمي إليه روسيا . مجمل الخطوات العسكرية والأمنية والاقتصادية النفطية التي تم اتخاذها حتى الآن مثل قتال جورجيا وتسيير دوريات القاذفات الاستراتيجية وغلق أنابيب الغاز تشير إلى أن روسيا قررت فرض احترامها واحترام مصالحها، ولم تقرر السير في منافسة أمريكا حتى نهاية الطريق .

ثانيا: الرؤية:

تتضمن القطبية فكرة جمع الدول حول هذا القطب الذي من المفترض أنه قائد، والقيادة تتضمن رؤية حول الأهداف أو فلسفة الحياة والعلاقات بين الأمم . فإذا كانت روسيا ترغب في أن تكون قطبا فإنه من المتوقع أن تقدم رؤيتها للدول والأمم حول العالم الذي تريد أن تقيمه، أو حول العلاقات التي يجب أن تسود بين الدول، أو التطلعات المستقبلية التي تريد أن تنجزها من أجل عالم أفضل . هي لا تستطيع أن تقول إنها تريد التعطيل على الرؤية الأمريكية فقط، وإنما عليها أن تقدم البديل، وأن تبين للجميع لماذا هي تعترض على الرؤية الأمريكية، ولماذا تشكل رؤيتها أفضلية . القيادة ليست أمرا عبثيا، وليست مجرد معارضة، وإنما عبارة عن عنوان قادر على استقطاب الناس والدول ليشكلوا معا جبهة واحدة، أو حزبا أو جماعة .

بإمكان روسيا إن شاءت أن تكون قطبا وأن تدافع مثلا عن فكرة العالمية في مواجهة العولمة، من حيث إن العالمية تقوم على فكرة المشاركة والتعاون بين الدول، وعلى تميز الثقافات وتكاملها، بينما العولمة الأمريكية تقوم على مبدأ الغزو الثقافي والفكري، وأمركة العالم؛ أو من الممكن أن تتبنى روسيا فكرة العدالة للشعوب المضطهدة والمقهورة، وأن تتبنى برنامجا نحو النهوض الاقتصادي والثقافي والاجتماعي في دول العالم النامي؛ أو من الممكن أن تتبنى برامج خاصة مثل المحافظة على الكرة الأرضية والبيئة، والاندفاع نحو إزالة التمييز بكافة أشكاله من أجل أن يعيش الناس بأمن ووئام؛ ومن الممكن أن تتبنى نظاما اقتصاديا وماليا مختلفا عن ذلك الذي فرضته الرأسمالية الليبرالية الحديثة من أجل تحقيق استقرار عالمي، وبحيث يعتمد النظام على عدم الاستغلال وينأى عن شرور وجشع الرأسماليين الكبار؛ الخ . هذا وقد طرح رئيس الوزراء الروسي بوتين فكرة بتاريخ 11 يونيو/ حزيران 2009 حول نزع الأسلحة النووية تماما، وقال إن روسيا على استعداد أن تنزع أسلحتها النووية فيما إذا أبدى الآخرون الذين يعلنون بشكل رسمي أو غير رسمي عن امتلاكهم للسلاح استعدادهم للقيام بذات الشيء . وقال إننا اخترعنا الأسلحة النووية ولن نستعملها، ونأمل من الذين اخترعوها واستعملوها أن يتخلوا عنها .

الإشارة واضحة إلى الولايات المتحدة، وربما إلى البرنامجين النووين الكوري والإيراني على اعتبار أن نزع السلاح النووي يحل مشكلة كل البرامج النووية في العالم ويقضي على وجودها . لكن المهم أن روسيا تقدم بهذا الطرح رؤية محدودة يمكن أن تحقق حولها التفافا من حيث أن خطر السلاح النووي يتهدد الجميع وليس دولة بعينها . روسيا لم تقدم شيئا واضحا في هذا المجال بعد على الرغم من أن دولا عدة تتطلع إليها لمساعدتها في مواجهة التهديد الأمريكي المتمثل بفرض الحصار أو الاحتلال أو التهديد بالقوة العسكرية .

ثالثا: الإمكانيات المالية والاقتصادية:

تتطلب القطبية قوة في المال والعسكر، وإذا كانت الدولة قاصرة في هذين الأمرين فإنه يصعب عليها أن تتبوأ المركز الأول . القيادة مكلفة جدا، وهي تتطلب تحمل أعباء كثيرة منها القدرة على النهوض بالأحلاف أو الأفلاك اقتصاديا وتحسين أوضاع الناس المعيشية، وأيضا القدرة على الدفاع عنها، أو تقديم ما يكفي من المعدات العسكرية والمستلزمات التدريبية والتنظيمية لتكون قادرة على الدفاع عن نفسها . الدولة القطب تحتاج إلى برنامج لتقديم المساعدات، وإلى قدرة على التحرك السريع عند حدوث الكوارث الطبيعية من أجل الدعم والمساندة، وأن تكون لديها التقنية الحديثة المنافسة، والخبرة والمعرفة العلمية الكفيلة باستمرار النهوض العلمي والتقني .

روسيا تعاني من نقص في هذه المسائل . صحيح أن دخلها قد تحسن بسبب ارتفاع أسعار النفط، لكن اقتصادها ما زال قاصرا عن تغذية نفقات دولة عظمى قطبية . الاقتصاد المستند إلى تصدير سلعة واحدة يبقى اقتصادا ضعيفا وعرضة للانهيار بسبب تقلبات خارجية، وبسبب إمكانية النفاد . الاقتصاد القوي هو الاقتصاد المتنوع المستند إلى عوامل إنتاجية متنوعة، وإلى تقنية عالية، وإلى قدرات على الاختراع والابتكار . روسيا بحاجة لتطوير قدراتها العلمية والتقنية، ومن الضروري أن توظف أموالا طائلة نحو هذه الحاجة .

روسيا أيضا أمام اختبار داخلي من حيث المستوى المعيشي . ما زال الروسي يعيش حياة استهلاكية دون الحياة الاستهلاكية التي يعيشها الأمريكي أو الأوروبي الغربي، والاقتصاد الروسي تحت ضغط متطلبات استهلاكية لم يعد بالإمكان تجاهلها . وربما إذا شاءت روسيا التسريع في بنائها الاقتصادي، فإن أمامها أن تستعين بالشركات الغربية بسبب تفوقها التقني .

رابعا: التماسك الاجتماعي والسمو الأخلاقي:

الدولة القوية هي الدولة المتماسكة اجتماعيا والراقية أخلاقيا من حيث العمل الجماعي والتعاون المتبادل بين مختلف قطاعات الشعب . دولة تعاني من التحيزات القومية، والتفرد بالحكم، وضعف المشاركة الشعبية، ومن الفساد وتفضيل المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة لا تستطيع أن تكون دولة قوية أو قطبية، ولا تستطيع أن تقول إنها تحاول صناعة مستقبل مشرق لأبنائها .

روسيا خارجة الآن من محنة اجتماعية وإدارية أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي وتعمقت بفعل عوامل داخلية وخارجية . إنها بالتأكيد بحاجة إلى جهود ضخمة لترسيخ التماسك الاجتماعي ووحدة الاتحاد الروسي، ولعلو القيم الجماعية على القيم الفردية الاستغلالية . الدولة قوية بقوة أبنائها وبرغبتهم في العمل معا، ورفع مستويات الإنتاج .

في النهاية أرى بأن روسيا تحت الظروف الحالية لا تستطيع أن تشكل قطبا على الساحة الدولية، لكنها تستطيع أن تمارس دور الدولة العظمى ذات الكلمة المحترمة على الساحة الدولية . هناك مواقع تستطيع روسيا أن تكون فيها قطبا مثل الأمم المتحدة، لكن هناك مواقع أخرى لا تستطيع مثل باكستان أو العراق . لا توجد نفقات وتبعات كثيرة في الأمم المتحدة، لكن دعم المقاومة العراقية يتطلب الشيء الكثير من زاوية الدعم الأمني والعسكري والسياسي والمالي .

روسيا قادرة على الذود عن نفسها، وقادرة على وقف الغرب عند حده فيما يتعلق بمصالحها وأمنها ووحدة الأراضي الروسية، لكنها لا تستطيع التهديد بوقف عدوان على إيران أو فنزويلا لأنها ربما غير راغبة أولا، ولأنها ليست مستعدة تجهيزيا للدخول في هذا الأمر الآن . لكنها على أية حال تملك المقومات، وإذا وفرت الجهود والأموال المناسبة، فإنها تستطيع أن تكون قطبا، أو على الأقل لاعبا أكثر فاعلية على الساحة الدولية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"