عادي

في وجه الترويكا ... الأزمة والتقشف في منطقة اليورو

03:35 صباحا
قراءة 8 دقائق
في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2015 صوّت الشعب اليوناني في انتخابات ذات أهمية تاريخية ليس فقط بالنسبة لليونان، بل لكل أوروبا، حيث تم انتخاب الحزب الراديكالي «سيريزا» الذي فرض تحديات كبيرة على سياسة التقشف والأجندة الليبرالية، خاصة من الواضح أن الاتحاد النقدي الأوروبي يعاني فشلاً تاريخياً عصياً على الإصلاح، وهذا الأمر ليس في مصالح الفئة العاملة في أوروبا على وجه التحديد، بالتالي يبدو أن هناك واقعاً جديداً، يمكن أن يهدّد التلاحم الأوروبي بشكل أو بآخر، خاصة في ظل سياسات ألمانيا الراهنة.

يشير المؤلفان في الفصل الرابع من الكتاب إلى أنه منذ اندلاع الأزمة، تم تكريس الكثير من الطاقة السياسية في منطقة اليورو للتعامل مع مشكلة الأوراق المالية، سواء كانت هذه قروضاً سيئة، ومن الواضح أنها دين حكومي غير مستدام، أو بيان موازنة للبنوك الهشة. وتم استثمار حماسة سياسية أقل في الالتفاف إلى التدفقات المالية، وعلى نحو أخص الدخل (النمو)، الاستثمارات والاستهلاك.

ويقولان إنه لمعالجة أزمة من خلال معالجة الأوراق المالية بشكل رئيسي هو تماماً الطريق الخاطئ لتجاوزها، بالنسبة للمستقبل فإن الأوراق المالية هي نتيجة تدفقات اليوم. ولتجنب خلق أوراق مالية إشكالية جديدة، يجب أن تعطى الأولوية لاستعادة التدفقات، حتى وإن تسبب هذا ببعض الألم على أصحاب الأوراق المالية اليوم.

وبعد تناولهما لهذه المسألة يجدان أن القوة الوحيدة التي يمكن أن تهز حالة الرضا عن النفس لدى ألمانيا هي من خلال الضغط السياسي الواحد من قبل الدول الأوروبية الأخرى، من بينها فرنسا. وبدلاً من ذلك يمكن أن تستيقظ ألمانيا إذا ما بدأت الجدران تتراكم في كل دولة تلو الأخرى من دول الاتحاد النقدي الأوروبي، ومن المحتمل أن يقود هذا إلى رعب وشيك في عدد من البلدان في الوقت ذاته. وإذا ما أدركوا ليس فقط ضعفهم الفردي، بل قوتهم الجماعية، فإن ائتلافاً من الدول المدينة بقيادة فرنسا، تهدد بأن تأتي بنهاية الاتحاد النقدي الأوروبي، ربما يكون الطريق الوحيد لإجبار ألمانيا على تغيير نهجها من دون إحداث كوارث اجتماعية واقتصادية عبر أوروبا. لأنه، إذا ما انتهى الاتحاد النقدي الأوروبي، فإن العملات الجديدة للدول المدينة - وفرنسا - سيتم تخفيض قيمتها بشكل أساسي نسبة لعملة اليورو القديمة وبالنسبة للعملة الألمانية الجديدة، بالتالي تدمير جزء كبير من أسواق التصدير الألمانية بين عشية وضحاها. ويتوسعان في هذا النقاش في الفصل الخامس والسادس.

ما الذي ينبغي أن يفعله اليسار؟

تعرض الفصول الثلاث الأخيرة شرحاً مفصلاً للكارثة اليونانية، وما يمكن تعلمه منها، ومحاولة تقديم بديل محتمل. يبدأ الكاتبان بالحديث عمّا ينبغي أن يفعله اليسار.. فإذا ما كانت استجابة السلطات الأوروبية لأزمة منطقة اليورو مروعة، فإن استجابة اليسار الأوروبي للتحديات التي فرضها الاضطراب، ومن خلال التصلب المحافظ للاتحاد النقدي الأوروبي، لم تكن مدهشة تماماً. ويشيران إلى أن «اليسار عموماً تخلّف عن الأحداث، وفشل في الاستفادة من أزمة الرأسمالية الأعمق منذ الحرب العالمية الثانية. أما من ناحية جرأة أفكاره، غالباً ما يكون متخلفاً عن اليمين، لا بل حتى اليمين المتطرف. وتكمن مشكلة اليسار في عدم قدرته على وضع برنامج اقتصادي مقنع من شأنه أن يحل الأزمة، ويقود إلى النمو، ويحسن فيه ظرف الطبقة العاملة».

يقول الكاتبان: «كي نكون منصفين، فإن اليسار تحديداً وجّه انتقادات حادة للتقشف وسياسات التحرر الاقتصادي والخصخصة، كما أظهر فراغ الاقتصادات القائمة على الليبرالية الجديدة، وندد بانخفاض الأجور كجواب على البطالة، ودافع عن سياسات التحكم المالي والاستثمار العام. لكنه فشل أيضاً في وضع هذه الأفكار في قالب متماسك من شأنه أن يقدّم جواباً مقنعاً للأزمة. وكان السبب الرئيسي لهذا الفشل هو عدم تحمّس الجزء الأكبر من اليسار الأوروبي لمواجهة المشكلة العويصة للعملة المشتركة بشكل مباشر، بالأحرى طبيعة الاتحاد الأوروبي كما تطور في العقود الأخيرة».

ويشيران إلى أنه مع ذلك خلال عدد من السنوات، بدأت الأشياء بالتغير في محيط منطقة اليورو، وبشكل أساسي في اليونان، وإسبانيا. وإن عمق واتساع الأزمة لم يسبق له مثيل، وظهر اليسار كالمستفيد الرئيسي من الاضطراب السياسي. وكان توقع مجيء حكومة راديكالية مستندة إلى اليسار في المستقبل القريب حقيقياً جداً في اليونان، وكان تطوراً من شأنه أن يحفز التطورات السياسية والاجتماعية العميقة عبر أوروبا. والمشكلة هي، على العموم، أن اليسار اليوناني لم يضع حتى الآن برنامجاً متماسكاً ومقنعاً لأجل الاقتصاد، والمجتمع، والحكومة. ويتوسّع الكاتبان في هذا الأمر في الفصل العاشر بعنوان «الكارثة اليونانية».

تغيير النظرة السياسية

ويجد الكاتبان أن اليسار اليوناني استفاد بشكل كبير من انهيار شرعية كل القوى السياسية التي تدعم خطط الإنقاذ لدى الترويكا وسياسات التقشف المرافقة المفروضة على البلاد منذ بداية الأزمة في 2010. ويضيفان: «وعلى العموم، لم تكن مقترحاتها الإيجابية الخاصة بها للتعامل مع الأزمة، وإعادة تشكيل الاقتصاد اليوناني والمجتمع، بهذا التأثير. فاليسار اليوناني، كما غيره، لا يزال يرفض الاعتراف بطبيعة أزمة منطقة اليورو، ويعتقد أنه يمكن أن يحل من دون حدوث أي تمزق اجتماعي كبير، وحتى من دون تحد تلاحم اليونان في الاتحاد الأوروبي والاتحاد النقدي الأوروبي. ويعتقد بأن الأزمة يمكن أن تتم مواجهتها من خلال تخفيف السياسة المالية، وتنفيذ إعادة توزيع الدخل والثروة. وهذا يبقى ضعفاً أساسياً في ضوء المهام الحقيقية التي يترتب على حكومة يسار في اليونان التعامل معها، وبالنظر إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه في تغيير النظرة السياسية لباقي أوروبا».

ويشيران إلى أن مهمة اليسار في أوروبا هي تطوير الخطوط العريضةلمخطط قادر على التعامل مع أزمة منطقة اليورو بشكل أساسي في الدول المحيطة التي تقع على أطراف الاتحاد، لكن في الدول التي تقع في الدول الأساسية للاتحاد النقدي الأوروبي. كما يتحدثان عن الخطة الموجودة بشكل مفصل في الفصل الثاني من الكتاب فيما يتعلق باليونان، والتي تكون مرتبطة أيضاً بالدول المحيطة الأخرى الواقعة في فخ السياسة الحالية. وهو لا يعدّ برنامجاً كاملاً، بالطبع، لأن تشكيل مثل هذا البرنامج سوف يتطلب شكلاً منسقاً واسع النطاق يتضمن العديد من الجهات الاجتماعية الفاعلة.

ويقولان: «وفي النهاية سيكون من أحد أهداف الخطة الأوسع تخطيط بعض الخطوات الأساسية والضرورية، وإذا ما كانت المجتمعات الأوروبية ماضية بالتحرك نحو اتجاه النمو والعدالة الاجتماعية، بالتالي تغيير ميزان قوى الطبقة لصالح العمال، وتوجيه التنمية الاجتماعية في اتجاه جديد. وتحقيق هذه الأهداف سوف يتطلب مواجهة مؤسسات الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر، وبالتحديد الآليات الفاشلة للاتحاد النقدي الأوروبي. وعلى نطاق أوسع، سوف يتطلب الأمر تبني وجهة نظر اجتماعية واضحة من شأنها أن تواجه بشكل مباشر رأسمالية عصرنا المختلة تماماً».

فرصة أوروبا

ويذكر الكاتبان في الفصل الأخير أنه لفترة طويلة كانت أوروبا مرادف التقدم بالنسبة لبلدان في جنوبي أوروبا مثل إسبانيا، البرتغال أو اليونان، فقد كانت كلها تحت حكم أنظمة استبدادية، وكانت تنظر إلى شمالي أوروبا بنظرة أمل. فقيم مثل الديمقراطية، والحداثة، والحقوق المدنية والاجتماعية كلها يقال إنها ممكنة إذا ما انضم الجنوب إلى الشمال، لكي تبني اتحاداً أوروبياً أكبر.

ويشيران إلى أن الوضع مختلف اليوم، وبلدان الجنوب تعاني آثار الأزمة والسياسات القائمة على الليبرالية الجديدة المنفذة خلالها. فتدابير التقشف والدين القومي هي آليات تم استخدامها من أجل تدمير الإنجازات الاجتماعية التي كسبتها الطبقة العاملة بعد سنوات من النضال. والدساتير الوطنية في هذه البلدان تم تفريغها من محتواها، والضمانات الإيجابية، مثل الحق في العمل أو الحق في الإسكان، تم تعطيلها. وإن عملية كبيرة من التراجع تحدث في كل أوروبا، وهي تضرب الجنوب بشكل أكثر كثافة، ويعلقان: «لكنها ليست الأزمة الوحيدة، إننا نتعامل مع عملية تأسيسية بدأت قبل مدة من الزمن. والاتحاد الأوروبي الراهن وهندسته المعمارية تم تصميمها من قبل حفنة من البيروقراطيين الذين سعوا بكل الوسائل لتجنب أي وسائل ممكنة لليبرالية الجديدة. إنه مشروع قائم على التقليد السياسي الليبرالي، مع خوف الشعب والممارسة الكاملة للسيادة الشعبية في قاعدتها، وقد جعلت بناء مشروع الحضارة علىطريقة الليبرالية الجديدة ممكناً. إن الأمر ليس فقط عن الاقتصاد، بل إنه نمط حياة بالكامل».

ويجدان أنه لا يمكننا أن نرى فقط الليبرالية الجديدة كظاهرة إيديولوجية بشكل صارم. فليس من الممكن النزاع على هيمنة الليبرالية الجديدة في إطار الأفكار وحدها، معلقين: «نحن، في الحقيقة، نشاهد إعادة تنظيم الطبقات الاجتماعية ضمن كل من الاقتصادات الوطنية والاقتصاد السياسي العالمي. ويهدف المشروع الليبرالي الجديد إلى أن يكون معادياً للثورة التي تعتزم إلغاء الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية التي تم الحصول عليها خلال سنوات ما بعد الحرب. بالتالي، المشروع الليبرالي الجديد يستخدم الإطار المؤسساتي الأوروبي الحالي، الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تبني المؤسسات الوطنية، ولكي تحصل على أهدافها. هناك نماذج جيدة لهذه الإصلاحات الهيكلية والتغيرات المهمة الأخرى في المؤسسات، مثل الإصلاحات الدستورية التي فرضت على هذه البلدان».

المشروع الليبرالي الجديد

يرى الكاتبان أن الأزمة الراهنة أظهرت لنا في الواقع الوجه الحقيقي للمشروع الليبرالي الجديد. والاتحاد الأوروبي الراهن ليس تعبيراً داعماً للاقتصادات الوطنية أو مشروعاً قائماً على البناء الاجتماعي، بل عبارة عن لعبة ألواح مصممة من قبل الرأسمال الأوروبي الكبير، الذي من شأنه أن يحسن موقعه في الاقتصاد العالمي.

ويجدان أن الرأسمال المالي بشكل خاص كان العامل الرئيسي في بناء الاتحاد الأوروبي، وكان هدفه الناجح خلق درع واقية لتجنب كل السياسات التقدمية. وإن عبارة «ليس هناك بديل لليبرالية الجديدة» هي الدليل السياسي من أجل الرأسمال المالي.
ويقول مؤلفا الكتاب: «في هذا السياق، ومع نظام تراكم مستنفد تماماً في الدول الجنوبية، فإن المؤسسات الأوروبية والحكومات القائمة على سياسات الليبرالية الجديدة عجّلت وتيرة السياسات الاقتصادية التي استهدفت إلى فك وتدمير الحقوق الاجتماعية والخدمات العامة. وهي بالتالي تدعم نموذجاً اجتماعياً قمعياً بشكل راديكالي تشكّل بسبب نقص استقرار الوظائف، وصعود حالة عدم المساواة. وهذا يعني إعادة تنظيم راديكالية للطبقات الاجتماعية التي سوف تحول التراكيب الاجتماعية للدول المختلفة بالكامل».

ويضيفان: «ومن الواضح أن هدف الترويكا الأساسي، ليس إفقار السكان بموجب ذلك، بل إعادة تشكيل مناطق الربحية.

لكن هذه المناطق الجديدة ممكنة فقط إذا ما تم تنفيذ عدد من برامج التعديل من قبل الحكومات. وبرامج التعديل تدفع اقتصادات الدول الواقعة في محيط منطقة اليورو إلى سيناريو نمو اقتصادي جديد، ونموذج اجتماعي جديد. وإن تدمير الانتصارات الاجتماعية مطلب ضروري من أجل إنجاز المشروع القائم على الليبرالية الجديدة، لأن هذه الحقوق، اليوم أكثر من أي وقت مضى، هي عوائق للمكاسب الرأسمالية.

وعلى العموم، هذا الطريق أخذ الجنوب إلى كساد اقتصادي جديد، والذي كان في السابق قيد التنفيذ، إلى جانب مستويات عالية من البطالة، والإقصاء الاجتماعي المتنامي، والسمات النموذجية الأخرى من أزمات الرأسمالية، وتوجّب أن نضيف عليها النظام الاجتماعي الجديد القائم على القمع والشمولية التي نشاهدها».

كما يذكران أن الوصف أعلاه هو لمشروعهم، مشروع النخب المالية. لكن يؤكدان أن هناك أملاً، خاصة مع مشروع بديل، ويقولان: «اليوم روح الأمل السياسي موجود على مساحة واسعة من أوروبا. ونعرف بأنه ليس هناك مخرج للطبقة العاملة ضمن الاتحاد الأوروبي الراهن، لكن وجود تلاحم اقتصادي وسياسي مختلف ليس فقط ممكناً، بل ضروري، وأي تلاحم اشتراكي وجمهوري، هو تلاحم يحفظ الانتصارات الاجتماعية وحقوق الإنسان، وهو تلاحم يبدأ مع دمقرطة الاقتصاد. إننا مدركون بأنه للوصول إلى هناك، نحتاج الكثير من الجرأة والتضامن، لكننا مدركون بأننا أيضاً لا نواجه مشكلات تقنية، بل مشكلات مرتبطة بالإرادة السياسية. قالت الاقتصادية البريطانية الراحل جون روبنسون ذات مرة إن هدف دراسة الاقتصاد ليس الحصول على مجموعة من الإجابات الجاهزة للأسئلة الاقتصادية، لكن لتعلم كيفية تجنب الخداع من قبل الاقتصاديين.

اليوم، هناك جيش كبير من الاقتصاديين السيئين، الذين يوصون بسياسات سيئة لصالح فئة قليلة. وهذه الفئة ربما لم تكن أكثر اهتماماً بعرض مناهج ومقاربات مختلفة».

تأليف: هينر فلاسبيك وكوستاس لابافيتساس
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"