«الأيام» لطه حسين

03:52 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح

هناك إجماع على أن طه حسين خير من تمكن من دراسة موضوع الأدب العربي والشعر الجاهلي، وترك للأجيال موسوعات في غاية الأهمية.

للمرة العاشرة، وربما العشرين، يشدني كتابُ (الأيام) لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين؛ لما يمتلئ من أحداث ومؤثرات، ولما يمثله من شجاعةِ الباحث غير المستطيع إِلَّا أن يسافر ويدرس ويتعلم لغة أجنبية ويكتب بها، ويتزوج امرأة فرنسية، كل ذلك هو تعبير واقعي عن قدرة ذلك الضرير على تحدي الأيام، والخروج من دائرة الضعف الإنساني.

ونلاحظ أنه لم يُخفِ شيئاً أو يتحفظ على شيء، فقد كان يكتب بوضوح عن كل ما عاناه وعايشه، سواء في فرنسا أو في القاهرة. إنه المتحدي الضرير الذي نجح في صنع النموذج الإنساني لضرير أحاطت به الصعوبات من كل جانب.

ومَن يستعِر كتابَ الأيام مثلي «مرات ومرات» يُدرك هذا المعنى، ويشعر بما يعنيه النموذج المتحدي؛ ذلك الذي بدأ بتحدي الصعوبات منذ كان طفلاً لا يفصله عن الشارع غير سياج من خشب، وقد كان ذلك السياج بداية التحدي؛ إذ حاول أكثر من مرة أن يجتازه إلى الشارع، لكن والدته وإخوته كانوا يراقبونه ويخافون عليه. وكنتُ تحدثت مرة عن زيارتين تمَّتا إلى (رامتان) وهو الاسم الذي اختاره للمبنى الذي كان يسكنه، وأدهشني التنظيم والقدرة على توزيع الوقت بين قراءة القرآن الكريم، وقراءة فصول من الأدب العربي القديم، أو الأدب الفرنسي.

كان طه حسين جادّاً مع نفسه ومع الآخرين، جادّاً في حياته وفي قراءاته، ولهذا وحده قدَّم النموذج المطلوب في حياتنا العربية لضرير قادر على تحدي المعوقات من أيٍّ كان، وفي أي شكل كان، ولقد كانت الخطوة الأولى والأهم هي تركه للأزهر ونظامه التقليدي، وإصراره على تعلم اللغة الفرنسية وتحديداً في العثور على منحة دراسية، وكان ذلك في أيام الحرب العالمية الثانية، وما أحاطت بالمشهد كله من أخطار.

لقد فشل العشرات، ونجح طه حسين، ولقد تحدث في هذا الكتاب المهم عن زملاء له رافقهم في تلك الرحلة الصعبة؛ لكنهم فشلوا، وعاد بعضهم إلى مصر، وقد غيّر توجهه العلمي، فالذي كان يتجه نحو دراسة الحقوق عاد وقد نسي موضوع الحقوق أو تناساه، كذلك الذي ذهب ليدرس الأدب الفرنسي لم يتمكن سوى من إحراز القليل، وقد كان كتاب «الأيام» محل نصيحتي للشباب الذين يرغبون في مواجهة كل التحديات المادية والمعرفية. ومن دون شك فإن زوجته قد ساعدته على خوض هذه التجربة، وقدمت هذا النموذج الإنساني الباهر بكل عطائه وتراثه. وهناك إجماع على أن طه حسين خير من تمكن من دراسة موضوع الأدب العربي والشعر الجاهلي، وترك للأجيال موسوعات في غاية الأهمية عن الشعر والأدب العربي في جميع العصور، بما فيها العصر الحديث الذي تناول فيه شعراءَ بدايةِ العصر الحديث، أمثال: إبراهيم ناجي، علي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وغيرهم من رواد التحديث في القصيدة العربية.

ولعل ما أثار الدارسين وجعلهم يتوقفون طويلاً هي تلك الدراسات التي تناول فيها الشعر والنثر العربي في العصر العباسي، وهو عصر الازدهار والنماء، وقد بلغ فيه التطور الشعري المدى، ويكفي أن نذكر من الأسماء التي لمعت في هذا العصر أبو تمام، والمتنبي، وأبو العلاء المعري، وكلهم أعلام غيَّروا وجه الأدب العربي، والشعر خاصة، وفي الأيام ما يعيد إلى الذاكرة كثيراً من هذه المواقف العلمية التي لا تنسى ولا تتجاوزها الذاكرة.

إن الأيام ليس كتاباً للدراسة الأدبية فقط؛ ولكنه مملوء بالإشارات العميقة، وبما يذكر بتلك الدراسات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"