لبنان لم يعد يشبه ذاته

05:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

لم يعد ينشغل الناس سوى بلقمة العيش أو بفرصة للهروب، وكأن هدف الساسة ورعاتهم الخارجيين هو إفراغ لبنان من أهله.

«لبنان بَطَّل (لم يعد) يشبهنا، وبطّل يشبه أولادنا وأحفادنا».. جملة قالتها سيدة لبنانية في شريط فيديو يعلن فيه عدد من اللبنانيين عن قرارهم بالهجرة، أو بالمعنى الأصح الهروب من دولة كانت حلماً لكل العرب وكثيرين من غير العرب وتحولت إلى كابوس لأبنائها وعشاقها.

المعلنون عن قرار الهروب نماذج لبنانية تنتمي إلى مختلف الفئات: فنانين ومثقفين وإعلاميين ورجال أعمال وأصحاب مهن عدة، ولعلهم يعبرون عن جموع الشعب اللبناني الذي أصبح مهدداً بالجوع، إن لم يكن يعانيه كثيرون حالياً، هاربون وهم يبكون الوطن الضائع كلّ إلى طريق، في رحلة بحث عن وطن بديل، وبعضهم بلغ من العمر عتياً، ولكن لا مفر، والنتيجة أن يتفرق الأهل ويتوزع الأحبة على دول مختلفة، مضحين بالمشاعر من أجل لقمة العيش والكرامة المتحطمة على صخور الرهان السياسي لجر لبنان الأخضر إلى أن يكون لبنان المقفر من أهله، والشاحب لونه والكئيبة ملامحه.

منذ مطلع هذا القرن ولبنان تتبادله الأزمات وتلاحق أهله الأوجاع، وإذا خرج من «حفرة وقع في غيرها»، عاش مراحل مظلمة تسيّد فيها الخوف وضاع الإحساس بالأمان وضاقت فرص العيش وتهددت مساحات الحرية، وازداد الطائفيون طائفية، والمذهبيون مذهبية، والجشعون جشعاً والمتسلطون تسلطاً، ولا عزاء للشعب الذي كان يضرب به المثل في عشق الحياة.

عاش لبنان مرحلة الاغتيالات التي بدأت باغتيال رفيق الحريري وتبعه عدد من العقول النيرة والرموز المعتدلة، وبعدها جاءت مراحل الفراغ الرئاسي والحكومي والعجز البرلماني ليتحول أشهراً بل سنوات إلى دولة بلا رئيس، أو بلا حكومة إلا لتسيير الأعمال، وإذا جاء الرئيس ندم الناس على أيام الفراغ، وإذا جاءت الحكومة وعدت بالكثير ولكنها لم تفعل ولو القليل، حتى أصبح لدى بعض اللبنانيين يقين بأن إدارة أمورهم بأنفسهم أفضل كثيراً من أن تديرهم دولة تزيد الطين بلة.

في أكتوبر الماضي أطل ضوء من وسط الظلام، وخرج الشعب يدافع عن وجوده وحقه في الحياة على أرض لا تستهلك خيراتها الأنانيات والمطامع السياسية، خرج رافعاً شعار لا للطائفية السياسية، ومتحداً خارج الأطر المرسومة له منذ الحرب الأهلية، خرج ثائراً على زعماء الطوائف والمحاصصة، مردداً بصوت واحد «كلن يعني كلن» لإزاحة كل رموز العمل السياسي، أملاً في أن يتحمل مسؤولية البلاد اختصاصيون مشهود لهم بالكفاءة والطهارة وعفة اليد وشبع البطن، أملاً في أن ينجحوا في إخراجه من أزماته التي أصبحت تطال حياة الناس وتهدد مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.

الثورة شغلت وسائل الإعلام العالمية والعربية، وصمد فيها الشعب اللبناني أشهراً أملاً في أن تتحقق مطالبه، ولكنه للأسف لم يجد الدعم والمساندة التي تكفل لثورته النجاح، ولم تسفر سوى عن استقالة سعد الحريري وحكومته، لتأتي بدلاً منها حكومة معدومة العافية والقوة.

الجوع دفع لبنانيين إلى الانتحار، وأحدهم أحب أن يوجه رسالة للعالم كله، خشية أن يتهمه أحد بالكفر قائلاً: «أنا مش كافر.. الجوع كافر».

أي قهر هذا الذي يدفع إنساناً إلى الانتحار بسبب الجوع، وللأسف فقد كانت خيبة الأمل كبيرة جداً عندما لم تهز هذه الكلمة رمش أحد من أهل الحكم وخارجه.

أما الظلام، فحدث ولا حرج عن دولة كانت صاحبة سمعة بأنها تسبق عصرها، وأصبحت اليوم معروفة بأنها تهرول إلى العصور الوسطى، حيث لا كهرباء ولا مازوت ولا أمل، وعلى كل مواطن أن يدبر أمره إذا كان يريد نوراً أو فليرض بظلام الواقع والسياسة.

ماذا بعد؟ هل نتحدث عن المرض؟ من الطبيعي أن يزداد انتشاراً مع نقص الأدوية وارتفاع أسعار المتاح منها بشكل غير منطقي ولا مقبول، مع الارتفاع الجنوني لسعر الدولار!

بالأمس كان الصراع سياسياً على الحصص والحقائب الوزارية والمناصب العليا، وكان ينشغل الشعب بالجدل حولها، أما اليوم فقد أصبحت رفاهية ولم يعد ينشغل الناس سوى بلقمة العيش أو البحث عن فرصة للهروب، وكأن هدف الساسة ورعاتهم الخارجيين، هو إفراغ لبنان من أهله، ليستحوذ عليه الأكثر قدرة على البقاء.

للأسف، لبنان «بَطَّل يشبه نفسه»، وليس فقط أبناءه أو أحفاده.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"