الجزائر وفرنسا.. إشكاليات الذاكرة

04:04 صباحا
الصورة
صحيفة الخليج
الحسين الزاوي

استعادت الجزائر بداية يوليو/تموز الماضي، مجموعة من جماجم زعماء المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي، وشكل هذا الحدث الاستثنائي مناسبة جديدة لإعادة طرح ملف الذاكرة التاريخية بين الجزائر وفرنسا، الذي مازال يعيق عملية تطبيع العلاقات بين البلدين، بسبب رفض السلطات الفرنسية تقديم اعتذار رسمي عن جرائمها بحق الشعب الجزائري إبان الفترة الاستعمارية، ولاسيما خلال حرب التحرير الكبرى التي جرت ما بين 1954 و1962 وارتكب خلالها الجيش الفرنسي جرائم فظيعة، أدت إلى مقتل أكثر من مليون ونصف المليون من الجزائريين.
وقد عبّر الرئيسان الجزائري عبد المجيد تبون، والفرنسي إمانويل ماكرون، بعد تسلم الجزائر لجزء من جماجم شهدائها عشية الذكرى 58 لاستقلالها، عن عزمهما فتح حوار جدي بشأن الصراع المعقد حول الذاكرة الذي يُسمّم أجواء العلاقة بين البلدين منذ نهاية الحرب التحريرية سنة 1962، حيث كلّف الرئيس الجزائري الباحث عبد المجيد شيخي بترؤس الجانب الجزائري في المفاوضات المتعلقة بتاريخ الاستعمار، واستعادة الأرشيف الجزائري من باريس، وأسند الرئيس الفرنسي مهمة إدارة ملف البحث في الذاكرة الاستعمارية وحرب الجزائر للمؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا الذي تعود أصوله إلى أسرة يهودية جزائرية من مدينة قسنطينة شرقي العاصمة الجزائرية، وهو معروف بأعماله الأكاديمية حول الحركة الوطنية والأحزاب الجزائرية خلال فترة الاحتلال الفرنسي.
وأكد ستورا في حوار أجرته معه يومية «اللوموند» الفرنسية، أن المهمة التي كلفه بها ماكرون تعد خطوة إيجابية، وتمثل سابقة بالنسبة لتعاطي فرنسا مع تاريخها. وقال إن مهمته تدخل في سياق عام تمتلك فيه الجزائر وفرنسا مصلحة مشتركة في التقارب، انطلاقاً في البداية من الظرف الدولي الراهن، فهناك ما يحدث في ليبيا، والهجرة والإسلام في فرنسا، والإرهاب في منطقة الساحل، وتعتبر الجزائر شريكاً أساسياً بالنسبة لفرنسا، وبالتالي يجب علينا يضيف ستورا أن نستحضر في أذهاننا كفرنسيين، البعد المتعلق بالحاضر عندما نعالج موضوع العلاقة مع الجزائر. ويصل إلى القول: «نحتفظ للأسف في أذهاننا بسنوات الستينات، بينما الجزائر تعدّ بعد مرور ستين سنة، بلداً مهما ويجب علينا ألا نغفل في هذا السياق، البعد الجيوسياسي للعلاقة معه».
وإذا كان الجانب الجزائري قد تعامل مع تعيين ستورا للإشراف على ملف الذاكرة بشيء من الإيجابية بالنظر إلى مواقفه الأكاديمية المتوازنة، بشأن أحداث حرب الجزائر، فإن هذا التكليف جُوبِه بانتقاد ورفض من قبل كثير من الأطراف الفرنسية المرتبطة باليمين المتطرف، وبالجمعيات الفرنسية التي مازالت تحن إلى الماضي، وتحتفظ بشعار «الجزائر الفرنسية»، حيث أكد المؤرخ اليميني جان سيفيا لجريدة «لوفيجارو» أن ستورا هو مؤرخ، ليس للذاكرات، ولكن للذاكرة الجزائرية لحرب الجزائر، وليس مؤرخاً محايداً يمتلك معرفة متكافئة بالمعسكرين وبالخلافات الداخلية التي حدثت في كليهما، وبالتالي، فإنه بحسب وجهة نظره يمتلك مقاربة تجهل كثيراً الذاكرة الأوروبية (في إشارة منه إلى مستوطني الجزائر الذين ينحدرون من أصول فرنسية وإسبانية وإيطالية) ويجهل ذاكرة «الحركي» (أي الجزائريون الذين ساندوا الاحتلال)، وبالتالي فنظرته جزئية ومن ثَم فهي منحازة.
ويرى الرئيس الفرنسي من جانبه، أن مهمة البحث في الذاكرة التي كلّف بها ستورا، تهدف إلى المساهمة في تحقيق الطمأنينة والراحة النفسية بالنسبة إلى أرواح أولئك الذين دمرتهم حرب الجزائر، سواء من الجانب الفرنسي أو الجانب الجزائري، وهو يحاول بذلك أن تكون مقاربته أكثر جرأة في التعامل مع ذاكرة حرب الجزائر التي دشنها خلال حملته الانتخابية كمرشح للرئاسة سنة 2017.
وقد ذهبت أوساط إعلامية عديدة إلى أن توقيت مبادرة ماكرون، يتزامن مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي المقبل وحاجته إلى استرضاء الناخبين الفرنسيين من أصول جزائرية.
وعليه، فإنه وبصرف النظر عن صدق النوايا الفرنسية الرسمية بشأن التعاطي مع ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، فإن مسألة حسم هذا الملف ستظل مؤجلة إلى عقود مقبلة نتيجة عمق الخلاف بين الجانبين، لاسيما بالنسبة لفرنسا التي يوجد بها لوبي قوي معارض للجزائر في العديد من الدوائر الرسمية، يتكوّن من «الأقدام السوداء» (قدماء المستوطنين في الجزائر)، يهود الجزائر الذين غادروها بعد الاستقلال، إضافة إلى «الحركي». ويرفض هؤلاء جميعاً أي تطبيع حقيقي للعلاقة بين البلدين قبل الحصول على ما يصفونه ب«حقوقهم المادية والمعنوية» في الجزائر التي ظلوا ينظرون إليها طوال أكثر من 130 عاماً على أنها جزء لا يتجزأ من تراب الدولة الفرنسية، كما أن الطرف الجزائري يرفض من جانبه فكرة القيام بكتابة مشتركة لتاريخ الذاكرة المتعلقة بالاستعمار، ويسعى من وراء هذا الحوار إلى استرجاع أرشيفه الوطني.

hzaoui63@yahoo.fr

عن الكاتب:
أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان