عادي
انتحار والدته دفعه لرسمها

«العاشقان» لماغريت.. الانفعالات قد لا تعكس الواقع

03:30 صباحا
قراءة 4 دقائق
الشارقة: أوميد عبدالكريم إبراهيم

عند قراءة اسم لوحة «العاشقان» للفنان البلجيكي رينيه فرانسوا ماغريت؛ قد تتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى قصص الحب والغرام التي تزخر بها ثقافات مختلف الشعوب، والتي عادة ما يُترجمها الرسامون والشعراء إلى أعمال فنية وقصائد، إلا أن العناوين العريضة قد لا تعكس مضامين الأشياء بالضرورة، فوراء هذه اللوحة قصة أليمة ظلت عالقة في ذاكرة الرسام البلجيكي طوال حياته؛ إذ ترتبط بحادثة انتحار والدته التي دفعت ماغريت إلى رسم عدد من اللوحات التي تُحاكي تلك الحادثة المفجعة.
تعود تفاصيل واقعة انتحار والدة ماغريت التي دفعته إلى رسم هذه اللوحة إلى بدايات القرن العشرين؛ حيث كانت والدته تعاني اكتئاباً شديداً ولم تكن تعرف إلى السعادة سبيلاً، وكانت تفكر بوضع حد لحياتها على الدوام؛ مما دفع الفنان البلجيكي الذي لم يكن يتجاوز الثالثة عشر من عمره آنذاك إلى عزلها داخل إحدى الغرف لحمايتها ومنعها من الانتحار؛ إلا أنها تمكنت من الهرب ذات يوم، ومن ثم ألقت بنفسها في نهر من فوق أحد الجسور في عام 1912، وبعد عدة أيام انتُشلت جثتها من المياه وكان جسدها عارياً، في حين كان وجهها مغطى بطرف فستانها، ولم ينسَ الفنان البلجيكي ذلك المشهد الأليم حتى وفاته.


رسم المعاناة


بعد مرور سنوات عدة على حادثة انتحار والدته؛ وتحديداً في عام 1928؛ بدأ رينيه فرانسوا ماغريت برسم مجموعة من اللوحات تُجسد تلك الحادثة وتعكس معاناة الرسام البلجيكي، ويظهر فيها أشخاص غُطيت رؤوسهم ووجوههم بقطع من القماش، من ضمنها؛ بل وأشهرها لوحة «العاشقان» التي يظهر فيها شخصان لا تُعرف هويتهما، ووجههما مغطى بالكامل بقطعة قماش أبيض، وعلى الرغم من مشاعر الحب والحميمية التي يعكسها اسم الصورة، فإنها في الواقع تُعبر عن العزلة والموت، والحزن والكمد، لاسيما أن الفنان البلجيكي كان يميل إلى السريالية في فنه؛ كما كان يحاول دائماً تسليط الضوء على الجانب المظلم لعقل الإنسان.


غرابة مقلقة


كان الغموض الذي يكتنف هذه اللوحة من الأسباب التي أدت إلى تباين تأويلات وتفسيرات مختلف الأطراف حولها؛ وتم تحميل اللوحة مضامين نفسية مختلفة باختلاف توجهات كل طرف، فالمدافعون عن الحريات الشخصية استغلوا هذه اللوحة لاستخدامها رمزاً لهم آنذاك، وعلى النقيض من ذلك استخدمت منظمات مكافحة مرض نقص المناعة المكتسب هذه الصورة للتحذير من مخاطر الممارسات غير السوية على صحة الإنسان، في حين ذهب أصحاب الخيال الخصب إلى أن الصورة تجسيد للمقولة الشهيرة «الحب أعمى»، ويرى آخرون أن الطريقة التي كان ماغريت يرسم بها لوحاته، وكذلك أسلوبه في التعبير من خلال الرسم ينطبق عليه ما كان يُسميه عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد ب«الغرابة المقلقة»، أما الفنان البلجيكي نفسه، فإن أشهر عباراته في هذا السياق كانت: «الكلمات بلا معنى. إننا من نخلع عنها المعاني التي نريد، وبطريقة تعسفية في أغلب الأحيان».


معاني


رسم الفنان البلجيكي 4 لوحات تجسد قصة انتحار والدته بتوقيت متزامن وبمقاس موحد للوحات الأربع «73 سم × 54.2 سم»؛ كما عمد إلى ترقيمها بالأرقام الرومانية من واحد إلى أربعة، وهي موزعة حالياً في عدد من المتاحف حول العالم، وفي لوحة «العاشقان» يتخذ الشخصان الظاهران فيها وضعية توحي بأنهما يلتقطان صورة تذكارية، لكن قطعة القماش التي تغطي وجه كل منهما تبعث الشعور بالاختناق والضيق، وكأن الرسام البلجيكي يحاول أن يقول إن هذين العاشقين يشعران بالضيق ويخفيان الكثير من الأشياء عن بعضهما، لكنهما على الرغم من ذلك يحاولان ضبط نفسهما وكبح انفعالاتهما.
اختلف نقاد ومؤرخو الفن حول تفسير لوحة «العاشقان» واللوحات الثلاث الأخرى التي تناولت الموضوع ذاته، لكن أغلب التفسيرات جاءت متوافقة على أن اللوحة تجسيد للمقولة الشهيرة «الحب أعمى»، وأن اللوحة تقول إن «العاشقان» يجب ألاّ يرى أحدهما الآخر لكي يتحابا؛ إلا أن هذا الطرح لا يتسق نهائياً مع المبادئ التي كان ينادي بها الفنان البلجيكي الذي تبنى الاتجاه السريالي في الفن، وسبق له أن رد على النقاد قائلاً: «لقد آن أوان هجر الرسم التقليدي الذي يحاكي الواقع»؛ حيث كان ماغريت مؤمناً بأن دور الفن الحر والهادف لا يقتصر على العوالم التي يعيشها الناس؛ بل يحمل على عاتقه دوراً إبداعياً تتسع معانيه وأهدافه.


خداع بصري


الأسلوب الذي اعتمده رينيه فرانسوا ماغريت في رسم لوحة «العاشقان»، وكذلك في رسم معظم لوحاته؛ دفع كُتاب سيرة حياته إلى القول إنه «ظل طوال عمره أميناً لأسلوب بارد يقترب من أسلوب الخداع البصري»، فالفنان المولود في بروكسيل عام 1898 كان متأثراً بأعمال عدد من الرسامين السرياليين، في مقدمتهم سلفادور دالي، ماكس إرنست، إيف تانغي وجورجيو دي كيريكو، وهو ما أثّر بشكل جلي في رؤى وتوجهات واختيارات ماغريت الذي ظل محافظاً على هذا التوجه طوال حياته؛ كما أصبح لاحقاً رائد التيار السريالي في بلجيكا، وأحد أعلامه على مستوى العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"