منظومة الوعود الكاذبة

04:01 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

ليس الساسة وحدهم من يطلقون الوعود الكاذبة وليسوا وحدهم الذين خسروا معركة «كورونا»، بل أول الخاسرين هي منظمة الصحة العالمية

توهّمنا، بعض الوقت، أن معركة البشرية مع «كورونا» تكاد تحسم لمصلحة الإنسان، ولكنه الوهم الذي أفقنا منه على ضربات متتالية من الفيروس اللعين قلبت موازين المعركة لمصلحته، بعد أن فعل، ولا يزال، بالإنسان من دون سابق تهديد، ولا وعيد، أفعالاً أفقدته توازنه، وحوّلته إلى كائن لا يجيد سوى الكلام الخالي من أي معان.

منذ اندلاع المعركة، والإنسان في حالات من التخبط، عاجز عن دفع الأذى عن نفسه، وفاقد للقدرة على التصدي لألاعيب وباء مخادع استطاع أن يفرض عليه الجلوس في البيت أشهراً، وبعد أن ضعف الفيروس، وانخفضت الإصابات نسبياً، استبشر الناس خيراً باقتراب العودة إلى الحياة الطبيعية، وحاول السياسيون اقتناص الفرصة وتوظيف الأمر لمصلحتهم، فخرجوا يتوعدون الوباء، ويصدرون الوعود بأنْ لا عودة للإغلاق مرة ثانية «مهما كلّف الأمر».

ولا يخفى على أحد، أن وعود أهل السياسة ليست سوى أكاذيب، وكثير منهم يقولون ما لا يفعلون، ونادراً ما يُحاسَبون، وتأتي اليوم الموجة الثانية من انتشار الوباء للتأكيد على ذلك، وهو تأكيد لن يغير في الأمر شيئاً، وسيظل معظم ساسة العالم يمارسون أكاذيبهم؛ فها هي أوروبا تعود للإغلاق، والتشدد ثانية، بعد أن ضربها الوباء من جديد، وأصبحنا نسمع عن أرقام مرعبة للمصابين يومياً، سواء في إسبانيا، أو فرنسا، أو ألمانيا، أو بريطانيا، أو غيرها، ولَم يعد أمام صناع القرار سوى نقض وعودهم، والعودة للإغلاق، واتخاذ إجراءات أشد إيلاماً، مثل القرار الذي اتخذته بريطانيا بتغريم المصاب الذي لا يلتزم بالحجر ١٠ آلاف استرليني، بجانب ردع المتظاهرين ضد ارتداء الكمامات، وقرارات الإغلاق والتباعد، والذي يصل إلى الاعتقال، وهو ما حدث في أكثر من دولة لم تجد أمامها سوى هذا الإجراء لإسكات صوت التمرد على متطلبات محاربة الفيروس، ومحاولات التشكيك فيه.

ليست أوروبا وحدها، فالإصابات اليومية في الهند تقترب من ال١٠٠ ألف، ما ينذر بكوارث، وفي روسيا لَم ينجح لقاحها في لجم الفيروس، بل زاده انتشاراً، وفي الفلبين وصل الأمر إلى حد إصدار قرارات رئاسية بمنع الكلام، أو الأكل في النقل العام.

وعاد كورونا ليصيب وزراء ومسؤولين كباراً في دول مختلفة، وإن كان البعض مازال يناطح الفيروس رغم أنه كان من بين ضحاياه سابقاً، وإذا كان رئيس الوزراء البريطاني تعلّم من درس إصابته ب«كورونا»، وأصبح يعمل للفيروس مليون حساب في قراراته، فإن الرئيس البرازيلي بولسونارو، الذي جلس في عزلة وصفها بالرهيبة جراء إصابته، قال قبل أيام إن «الخوف من كورونا من شيم الضعفاء».

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أصبح الأكثر رعباً من أن يسلبه الفيروس مجده السياسي، ويحرمه من فترة رئاسية ثانية، بعد أن فشل في توظيفه في معاركه مع الصين، ومع منظمة الصحة العالمية، ولكن تصدّر أمريكا عرش ضحايا «كورونا» عالمياً على مستوى المصابين والوفيات، بجانب ارتفاع نسبة البطالة بعد فقدان ٣٩ مليون أمريكي وظائفهم بسبب الإغلاق والوباء، كل ذلك ساهم في تقليل فرص فوز ترامب في الانتخابات التي ستجرى في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ما دفعه للتشكيك الاستباقي في نتائج الانتخابات.

كان الأمل الأخير لترامب هو الاستفادة من الوباء بطرح اللقاح قبل الانتخابات، أملاً في انقلاب المعادلة لمصلحته، ولكن الأمر بات مستحيلاً وأعلن بنفسه أن اللقاح لن يكون جاهزاً قبل إبريل/ نيسان.

ليس الساسة وحدهم من يطلقون الوعود الكاذبة، وليسوا وحدهم الذين خسروا معركة «كورونا»، بل أول الخاسرين هي منظمة الصحة العالمية التي أطلقت الكثير من التصريحات المتضاربة بشأن زمن السيطرة على الوباء، واللقاحات والأدوية، ليجعلوا من الناس حقل تجارب، وآخر صيحة هي تجريب الأعشاب الإفريقية.

وليس أمام الناس سوى الالتزام بالإجراءات الوقائية حفاظاً على حياتهم، وحياة ذويهم، وكل ما نأمله أن يخرج السياسيون الوباء من منظومة وعودهم الكاذبة، وألا يطلقوا وعوداً إلا بعد التأكد من القدرة على الالتزام بها، لأن الناس يخططون لحياتهم بناءً على تصريحات أولي الأمر.

الأرقام تزداد بشكل مرعب، والسياسيون يواصلون الكلام الأجوف، والوعود الكاذبة والناس في حالة حيرة، ولا حل سوى استراحة من الكلام المرسل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"