عادي

هنريك إبسن.. المسرح الواقعي بلغة شعرية

22:26 مساء
قراءة 3 دقائق
هنريك

القاهرة: «الخليج»

اتسعت الفجوة بين الدراما والحياة الواقعية في أوروبا، حتى بلغت أقصى مدى لها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندئذ لم تكن العروض المسرحية سوى ميلودراما صاخبة مفتعلة، أو تتسم بالعاطفية، أو كانت محاولات لإحياء المسرح الإليزابيثي، وكانت النزعة الإصلاحية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، التي سادت أوروبا عامة، وإنجلترا خاصة، وكانت نتاج التقدم العلمي في منتصف القرن التاسع عشر.

كانت الرواية أول من استجاب للنزعة الواقعية التي انتقلت إلى ميدان المسرح، ومن ثم كان عليه أن ينتظر حتى مقدم شخصية عبقرية فذة، كان لها فضل تطوير المسرحية الواقعية الحديثة، ألا وهو هنريك إبسن، ذاك الكاتب النرويجي الذي يعد رائد المسرح الأوروبي الواقعي، والذي حذا حذوه كتاب أوروبيون كثيرون.

لم يكشف إبسن، كما يقول أحد النقاد الكبار «عن مقدرة مسرحية أكيدة، وعمق نظرة للحياة، وأهداف محددة، بشكل لم يتح لأحد من كتاب المسرح في عصره فحسب، بل إنه بدا كرمز ضخم يتمثل فيه كل ما هدف إليه عصره، أو أحرزه من نجاح في المضمار المسرحي، فنحن نرى في أعماله صوراً متبلورة لعصره».

كان فن إبسن المسرحي وثيق الصلة بتطور حياته عبر السنين، ويمكن متابعة تطوره الفني عبر عدة مراحل، لكنه في كل الأحوال، كتب مسرحية «كاتيلين» سنة 1848 ولم تكن عملاً ذا قيمة، رغم حماس أحد أصدقائه، الذي أخذها إلى العاصمة أوسلو، محاولاً نشرها، أو تقديمها للمسرح، وعندما فشل في إقناع أحد بنشرها، اضطر لبيعها إلى أحد دكاكين البقالة. 

عزيمة 

لكن هذا لم يثبط عزيمة إبسن، فكتب مسرحية ثانية من فصل واحد، مكنته من الحصول على وظيفة مخرج ومدير مسرح صغير أنشئ حديثاً، وكان عمله يجمع بين الإخراج والإدارة المسرحية، وكتابة مسرحيات من آن لآخر، وفي هذه المرحلة ركز على مواضيع قومية، ورومانسية، وساعده العمل في هذا المسرح الصغير على السفر إلى كوبنهاجن.

عمل إبسن مديراً للمسرح القومي في أوسلو، وهناك تزوج امرأة ساعدته على تجاوز ما صادفه من عثرات مالية، لكن عمله في المسرح لم يصب نجاحاً ما دفعه للاستدانة من الأصدقاء، وقد ساعده أحدهم في الحصول على منحة مكنته من السفر إلى الخارج، ورحل عن النرويج عام 1864 وغاب لمدة 25 سنة، جاب خلالها إيطاليا، وألمانيا، وكان لهذه السنوات أثرها الكبير فيه، فحاول أن يتحرر من قيود المسرحية، واقترب من كتابة المسرحية الشعرية.

كانت روما مبعث إلهام كبير له، بما يسودها من جو الأساطير والتاريخ الغارق في القدم، وقبل أن ينتقل لكتابة المسرحية الواقعية، كتب مسرحية تاريخية شعرية، ففي أثناء زيارته لروما تأثر إلى حد كبير بوجود حضارتين متمايزتين: الحضارة الوثنية القديمة، والحضارة المسيحية في العصور الوسطى، وأنتج هذا مسرحيته «الإمبراطور والجليلي».

وينتقل إلى المرحلة الواقعية فيكتب «بيت الدمية» التي أثارت جدلاً كبيراً كلما عرضت على المسرح في أي مكان في العالم، وبظهور مسرحيته «الأشباح» ازدادت ضراوة المعركة بين الجديد، والقديم، وبلغ من عنف المعركة النقدية أن نالت المسرحية من السباب والشتائم ما ملأ الصحف وأروقة، المسرح، لدرجة أن نقاداً وصفوها بأنها «بالوعة قذرة»، لكنه يكتب «البطة البرية» ثم يدخل في مرحلة رمزية بعد عودته إلى وطنه.

ورغم ما في مسرحياته من واقعية لا تنازع، ظل إبسن شاعري الروح حتى أثناء انشغاله في معالجة المواضيع الواقعية، ففي الأسلوب والرموز، وفي الشخوص تكمن روح إبسن الذي ينفعل قلبه بما يجري حوله من أحداث جسام، وفي هذا يقول أحد النقاد: «كان إبسن شاعراً، لقد حاول الكثيرون أن يجعلوا منه مفكراً، أو فيلسوفاً، أو ناقداً اجتماعياً، أو مصلحاً اجتماعياً، أما هو نفسه فكان يعلم أن عبقريته هي عبقرية فنان، مبدع».

إحساس

كان عميق الإحساس بما يدور حوله من أحداث، حتى إن برنارد شو كتب عنه قائلا: «لقد وضع شكسبير أشخاصنا على المسرح، لكنه لم يضع ظروفنا، ولذا فمسرحيات إبسن أهم كثيراً من مسرحيات شكسبير، وهي قادرة على إيلامنا بقسوة، وملئنا بالآمال في أن ننجو من استبداد المثل العليا، ونطمع في حياة أعمق، وأجمل في المستقبل».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"