عادي

الإسراء والمعراج.. الرحلة المحمدية في «اللازمن»

22:41 مساء
قراءة 5 دقائق
1

‮كان لا بد من منهج‮ ‬يُذَكِّر الإنسان بربه، ويبين له الطريق المستقيم، ومن هنا كانت الكتب السماوية، وكان إرسال الرسل‮، ‮‬فالرسالة السماوية تكليف بالتبليغ‮ ‬لبني‮ ‬آدم والدعوة إلى الله تقتضي‮ ‬التطبيق من الداعي‮ ‬ليكون قدوة لمن‮ ‬يدعوهم ولا‮ ‬يمكن أن تتحقق القدوة إلا إذا كان الرسول من جنس المرسل إليهم‮.‬ ولذلك‮ ‬يقول الله تبارك وتعالى لرسوله‮ صلى الله عليه وسلك ‬مرشداً وموجهاً‮: «‬قُلْ‮ ‬سُبْحَانَ‮ ‬رَبِّي‮ ‬هَلْ‮ ‬كُنتُ‮ ‬إَلاَّ‮ ‬بَشَراً رَّسُولاً‮»، (‬الإسراء‮: ٣٩)‬. ‬ولكي‮ ‬يقتنع الإنسان بما‮ ‬يدعو إليه الرسول لا بد من أشياء تثبت صدق الرسول، ومن ثم كانت المعجزات‮.‬

المعجزة هي‮ ‬دليل صدق الرسول، وهي‮ ‬أمر لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يفعله بشر، لأنه خارج قدرته، فهي‮ ‬من الله‮، ‬قال تعالى‮: «‬قُلْنَا‮ ‬يَا نَارُ‮ ‬كُونِي‮ ‬بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ‬وَأَرَادُوا بِهِ‮ ‬كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ‮ ‬الْأَخْسَرِينَ‮»، (‬الأنبياء ‮٩٦-٠٧)‬.

‮وتنبغي‮ ‬الإشارة إلى أن هناك فرقاً بين المعجزات المحمدية ومعجزات الأنبياء الآخرين، فمعجزة الرسول‮ صلى الله عليه وسلم ‬الكبرى هي‮ ‬القرآن الكريم، ومن ثم فالمعجزة هي‮ ‬المنهج التشريعي‮ ‬المرسل به الرسول، لتقويم ما فسد، وهذا ما لا نجده في‮ ‬معجزات الأنبياء الآخرين‮ «‬عليهم جميعاً السلام‮».‬

‮ ‬فمعجزة رسول الله‮ (‬موسى‮) عليه السلام، ‬كانت العصا، وإخراج‮ ‬يده من جيبه بيضاء من‮ ‬غير سوء، رغم إصابته بالبرص، أما منهجه فكان التوراة، ‬ولكي‮ ‬يكون الإقناع كاملاً، لا بد أن تكون المعجزة من جنس نبغ‮ ‬فيه القوم، فعلى سبيل المثال نبغ‮ ‬قوم موسى في‮ ‬السحر، فلذلك كان إعجاز سيدنا موسى من نفس ما نبغ‮ ‬قومه فيه، ولكنه ليس بسحر، بل شيء‮ ‬يفوق قدرة البشر، والدليل على ذلك أن السحرة سجدوا لله عندما رأوا معجزة موسى‮ عليه السلام.

‮ ‬وكانت معجزة سيدنا عيسى عليه السلام من جنس ما نبغ فيه قومه وهو ‬الطب، فقد كان عيسى عليه السلام‮ ‬يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي‮ ‬الموتى بإذن الله‮، ‬وقد تكون المعجزة خروجاً عن قانون كوني‮ ‬موجود، ‬بمعنى أن القانون‮ ‬يعطل، كما حدث لسيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد ألقي‮ ‬في‮ ‬النار ولم تحرقه بإذن الله‮.‬

معجزة لا تنتهي

‮ولما كان القرآن الكريم كتاباً معجزاً في‮ ‬أي‮ ‬مكان وفي‮ ‬أي‮ ‬زمان ولأي شخص، فهو‮ ‬يعطي‮ ‬كل مكان حسب علمه، ‬وكل زمان حسب ثقافته، وكل شخص وفقاً لقدرته العقلية، ‬وهذا هو الفرق بين المعجزات المحمدية ومعجزات الأنبياء الآخرين، فمعجزاتهم حدثت وشهدها أقوام محددون، ثم انتهت، بينما معجزة القرآن لا تنتهي‮.‬

‮ومن المعجزات الحسية المحمدية معجزة الإسراء والمعراج والتي أسري‮ ‬فيها برسول الله محمد‮ صلى الله عليه وسلم ‬من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات العلا وما فوقهن، ثم رجوعه من ليلته، ‬وذلك تخفيفاً عن نفسه عما لاقاه من إيذاء قريش، وإزالة الحزن من نفسه لفراق عمه وزوجته خديجة رضي الله عنها، وبذلك كانت رحلة الإسراء والمعراج، حيث‮ ‬يقول الله تعالى‮: «‬سُبْحَانَ‮ ‬الَّذِي‮ ‬أَسْرَى بِعَبْدِهِ‮ ‬لَيْلاً‮ ‬مِّنَ‮ ‬الْمَسْجِدِ‮ ‬الْحَرَامِ‮ ‬إِلَى الْمَسْجِدِ‮ ‬الأَقْصَى الَّذِي‮ ‬بَارَكْنَا حَوْلَهُ‮ ‬لِنُرِيَهُ‮ ‬مِنْ‮ ‬آيَاتِنَا إِنَّهُ‮ ‬هُوَ‮ ‬السَّمِيعُ‮ ‬البَصِيرُ‮»، (‬الإسراء‮:١).

‮وقد جادل الكثير من أهل الباطل في‮ ‬رحلة الإسراء والمعراج بل وحاولوا أن‮ ‬يشككوا في‮ ‬صدق هذه الرحلة ليس الآن فقط بل وقت حدوثها أيضاً، فقد كذبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بأنه أسري‮ ‬به ليلة أمس من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماوات العلا ثم رجع وكل ذلك في‮ ‬جزء من الليل‮.‬

موقف أبي بكر

‮ولم‮ ‬يكذب المشركون رسول الله فقط، بل اتهموه بالجنون، وحاولوا زعزعة إيمان ضعفاء الإيمان بقولهم‮: «‬انظروا ما‮ ‬يقول صاحبكم‮»‬، ‬لكن هناك نفوس خلصت ذاتها من أهواء الدنيا وأخلصت لله تعالى فصارت ترى بنور الله، ومن أولئك أبوبكر الصديق رضي الله عنه والذي‮ ‬ذهبت إليه قريش لتخبره بما‮ ‬يقوله صاحبه صلى الله عليه وسلم فقال‮: «‬إن كان قال فقد صدق‮»..‬ ما أسماها من عبارة، وما أخلصه من كلام‮، ‬إنها نفوس أسلمت أمرها لله، فسلمها الله من كل شيء، وإن موقف الصديق أبي‮ ‬بكر رضي‮ ‬الله عنه‮ ‬يذكرنا بنبي‮ ‬الله إبراهيم عليه السلام‮ ‬«إِذْ‮ ‬قَالَ‮ ‬لَهُ‮ ‬رَبُّهُ‮ ‬أَسْلِمْ‮ ‬قَالَ‮ ‬أَسْلَمْتُ‮ ‬لِرَبِّ‮ ‬الْعَالَمِينَ‮»، (‬البقرة: ١٣١).

وعلى النقيض من موقف أبي بكر رضي الله عنه كانت هناك نفوس مظلمة أعماها الضلال عن رؤية الحق «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ‮ ‬وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ‮ ‬الَّتِي‮ ‬فِي‮ ‬الصُّدُورِ‮»، (‬الحج‮: ٦٤)، ‬وهي‮ ‬ظلمة نفوس مشركي‮ ‬قريش وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنه أخبرهم بما رأى من تجارتهم وقوافلهم في‮ ‬مسراه وهو في‮ ‬طريقه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، بل وطلبوا منه وصف المسجد الأقصى وكثير منهم رآه فوصفه لهم، ولكنهم أصروا على عنادهم وكراهيتهم للحق، وفي‮ ‬كل مكان وزمان‮ ‬يوجد أمثال هؤلاء الذين لا‮ ‬يريدون للحياة أن تأخذ اتجاهها الصحيح‮.. ‬بل تقتضي‮ ‬مصالحهم أن تختلط الأوراق فيصعب التمييز بين الصواب والخطأ‮.‬

كلمة العلم

ويعطينا د‮. ‬عبدالباسط الجمل في‮ ‬كتابه‮: «‬موسوعة الإشارات العلمية في‮ ‬القرآن والسنة‮» ‬تحليلاً علمياً لهذه الرحلة العظيمة ليكون‮ ‬يقيناً للمؤمن على‮ ‬يقينه، ورادعاً للمنكر على افترائه ويقول‮: «‬ألم‮ ‬يكن الله قادراً على العروج برسوله إلى السماوات العلا مباشرة؟ نعم، فالله قادر وله سبحانه القدرة المطلقة‮.. ‬والله‮ ‬يتصف باللاحدود والمخلوق‮ ‬يتصف بالحدود‮.. ‬وصعب على المحدود أن‮ ‬يدرك أمر اللامحدود، ومن ثم كان لا بد من مرحلة تمهيدية تمثل مقدمة، حتى‮ ‬يقتنع المحدود، ومن ثم كانت رحلة الإسراء مقدمة لرحلة المعراج‮».‬

‮ ‬وإذا كان المكذبون قد أنكروا رحلة الإسراء، رغم ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فماذا كانوا سيقولون لو قال لهم مباشرة عرج بي‮ ‬إلى السماوات العلا؟ ‬كانوا سيقولون له‮ «‬ائت بالله‮ ‬يشهد على صدق ما تقول‮»‬، ‬ولم لا وقد قالوها من قبل؟ ألم‮ ‬يسجل القرآن قولهم‮ «‬أَوْ‮ ‬تَأْتِيَ‮ ‬بِاللّهِ‮ ‬وَالْمَلآئِكَةِ‮ ‬قَبِيلاً‮»، (‬الإسراء‮: ٢٩).‬ ‮«لكنه أخبرهم أنه أٍسري‮ ‬به ووصف لهم ما وصف‮، ‬وكانوا على‮ ‬يقين من صدق وصفه لأن أكثرهم رأى المسجد الأقصى وقد أخبرهم رجال القافلة بما حدث معهم مما‮ ‬يؤكد صدق ما قاله‮، ‬والصادق لا‮ ‬يكذب، فما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق في‮ ‬رحلة الإسراء فهو صادق لا شك في‮ ‬رحلة المعراج‮».‬

القدرة والزمن

‮ ‬وعن الاستفسار عن كيفية الإسراء والمعراج برسول الله‮ صلى الله عليه وسلم ‬ثم عودته في‮ ‬جزء بسيط من الليل‮ ‬يقول‮: «‬بالتأكيد إن حدوث الحدث‮ ‬يقترن بقدرة المحدث والقدرة من الناحية العلمية ترتبط بالزمن وبالتعبير الرياضي‮ ‬فإن القدرة‮ = ‬المعدل الزمني‮ ‬لبذل الشغل»‮.‬

‮ ‬إذاً الزمن‮ ‬يتناسب تناسباً عكسياً مع القدرة‮.. ‬بمعنى أن القدرة كلما زادت قلت قيمة الزمن، فلو كانت القدرة متناهية في‮ ‬الكبر‮ ‬يكون‮ ‬الزمن متناهياً في‮ ‬الصغر، أما لو كانت القدرة المحدثة لحدث ما هي‮ ‬قدرة موجد الزمن‮ «‬الله‮» ‬فإن الحدث‮ ‬يتم في‮ ‬لا زمن‮،‮ ‬والحق تعالى أحدث هذه الرحلة في‮ ‬زمن بسيط بالنسبة لنا، لكنه بالنسبة لله لا زمن لنقتنع، لأن عقلنا لا يسمح لنا بتقبل الأحداث اللازمنية‮.

«وبتقدم العلم ورحلات الفضاء والانتقال من كوكب إلى آخر بسفن الفضاء لم‮ ‬يعد هناك أدنى شك في‮ ‬حدوث رحلة الإسراء والمعراج فإذا كانت قدرة البشر قد أتاحت لهم الانتقال في‮ ‬الفضاء وهم ذوو قدرة محدودة فما بالنا بقدرة خالق هذا الإنسان؟‮».‬

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"