كان لا بد من منهج يُذَكِّر الإنسان بربه، ويبين له الطريق المستقيم، ومن هنا كانت الكتب السماوية، وكان إرسال الرسل، فالرسالة السماوية تكليف بالتبليغ لبني آدم والدعوة إلى الله تقتضي التطبيق من الداعي ليكون قدوة لمن يدعوهم ولا يمكن أن تتحقق القدوة إلا إذا كان الرسول من جنس المرسل إليهم. ولذلك يقول الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلك مرشداً وموجهاً: «قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً»، (الإسراء: ٣٩). ولكي يقتنع الإنسان بما يدعو إليه الرسول لا بد من أشياء تثبت صدق الرسول، ومن ثم كانت المعجزات.
المعجزة هي دليل صدق الرسول، وهي أمر لا يمكن أن يفعله بشر، لأنه خارج قدرته، فهي من الله، قال تعالى: «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ»، (الأنبياء ٩٦-٠٧).
وتنبغي الإشارة إلى أن هناك فرقاً بين المعجزات المحمدية ومعجزات الأنبياء الآخرين، فمعجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الكبرى هي القرآن الكريم، ومن ثم فالمعجزة هي المنهج التشريعي المرسل به الرسول، لتقويم ما فسد، وهذا ما لا نجده في معجزات الأنبياء الآخرين «عليهم جميعاً السلام».
فمعجزة رسول الله (موسى) عليه السلام، كانت العصا، وإخراج يده من جيبه بيضاء من غير سوء، رغم إصابته بالبرص، أما منهجه فكان التوراة، ولكي يكون الإقناع كاملاً، لا بد أن تكون المعجزة من جنس نبغ فيه القوم، فعلى سبيل المثال نبغ قوم موسى في السحر، فلذلك كان إعجاز سيدنا موسى من نفس ما نبغ قومه فيه، ولكنه ليس بسحر، بل شيء يفوق قدرة البشر، والدليل على ذلك أن السحرة سجدوا لله عندما رأوا معجزة موسى عليه السلام.
وكانت معجزة سيدنا عيسى عليه السلام من جنس ما نبغ فيه قومه وهو الطب، فقد كان عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وقد تكون المعجزة خروجاً عن قانون كوني موجود، بمعنى أن القانون يعطل، كما حدث لسيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد ألقي في النار ولم تحرقه بإذن الله.
معجزة لا تنتهي
ولما كان القرآن الكريم كتاباً معجزاً في أي مكان وفي أي زمان ولأي شخص، فهو يعطي كل مكان حسب علمه، وكل زمان حسب ثقافته، وكل شخص وفقاً لقدرته العقلية، وهذا هو الفرق بين المعجزات المحمدية ومعجزات الأنبياء الآخرين، فمعجزاتهم حدثت وشهدها أقوام محددون، ثم انتهت، بينما معجزة القرآن لا تنتهي.
ومن المعجزات الحسية المحمدية معجزة الإسراء والمعراج والتي أسري فيها برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة المكرمة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات العلا وما فوقهن، ثم رجوعه من ليلته، وذلك تخفيفاً عن نفسه عما لاقاه من إيذاء قريش، وإزالة الحزن من نفسه لفراق عمه وزوجته خديجة رضي الله عنها، وبذلك كانت رحلة الإسراء والمعراج، حيث يقول الله تعالى: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ»، (الإسراء:١).
وقد جادل الكثير من أهل الباطل في رحلة الإسراء والمعراج بل وحاولوا أن يشككوا في صدق هذه الرحلة ليس الآن فقط بل وقت حدوثها أيضاً، فقد كذبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بأنه أسري به ليلة أمس من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماوات العلا ثم رجع وكل ذلك في جزء من الليل.
موقف أبي بكر
ولم يكذب المشركون رسول الله فقط، بل اتهموه بالجنون، وحاولوا زعزعة إيمان ضعفاء الإيمان بقولهم: «انظروا ما يقول صاحبكم»، لكن هناك نفوس خلصت ذاتها من أهواء الدنيا وأخلصت لله تعالى فصارت ترى بنور الله، ومن أولئك أبوبكر الصديق رضي الله عنه والذي ذهبت إليه قريش لتخبره بما يقوله صاحبه صلى الله عليه وسلم فقال: «إن كان قال فقد صدق».. ما أسماها من عبارة، وما أخلصه من كلام، إنها نفوس أسلمت أمرها لله، فسلمها الله من كل شيء، وإن موقف الصديق أبي بكر رضي الله عنه يذكرنا بنبي الله إبراهيم عليه السلام «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ»، (البقرة: ١٣١).
وعلى النقيض من موقف أبي بكر رضي الله عنه كانت هناك نفوس مظلمة أعماها الضلال عن رؤية الحق «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»، (الحج: ٦٤)، وهي ظلمة نفوس مشركي قريش وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنه أخبرهم بما رأى من تجارتهم وقوافلهم في مسراه وهو في طريقه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، بل وطلبوا منه وصف المسجد الأقصى وكثير منهم رآه فوصفه لهم، ولكنهم أصروا على عنادهم وكراهيتهم للحق، وفي كل مكان وزمان يوجد أمثال هؤلاء الذين لا يريدون للحياة أن تأخذ اتجاهها الصحيح.. بل تقتضي مصالحهم أن تختلط الأوراق فيصعب التمييز بين الصواب والخطأ.
كلمة العلم
ويعطينا د. عبدالباسط الجمل في كتابه: «موسوعة الإشارات العلمية في القرآن والسنة» تحليلاً علمياً لهذه الرحلة العظيمة ليكون يقيناً للمؤمن على يقينه، ورادعاً للمنكر على افترائه ويقول: «ألم يكن الله قادراً على العروج برسوله إلى السماوات العلا مباشرة؟ نعم، فالله قادر وله سبحانه القدرة المطلقة.. والله يتصف باللاحدود والمخلوق يتصف بالحدود.. وصعب على المحدود أن يدرك أمر اللامحدود، ومن ثم كان لا بد من مرحلة تمهيدية تمثل مقدمة، حتى يقتنع المحدود، ومن ثم كانت رحلة الإسراء مقدمة لرحلة المعراج».
وإذا كان المكذبون قد أنكروا رحلة الإسراء، رغم ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فماذا كانوا سيقولون لو قال لهم مباشرة عرج بي إلى السماوات العلا؟ كانوا سيقولون له «ائت بالله يشهد على صدق ما تقول»، ولم لا وقد قالوها من قبل؟ ألم يسجل القرآن قولهم «أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً»، (الإسراء: ٢٩). «لكنه أخبرهم أنه أٍسري به ووصف لهم ما وصف، وكانوا على يقين من صدق وصفه لأن أكثرهم رأى المسجد الأقصى وقد أخبرهم رجال القافلة بما حدث معهم مما يؤكد صدق ما قاله، والصادق لا يكذب، فما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق في رحلة الإسراء فهو صادق لا شك في رحلة المعراج».
القدرة والزمن
وعن الاستفسار عن كيفية الإسراء والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عودته في جزء بسيط من الليل يقول: «بالتأكيد إن حدوث الحدث يقترن بقدرة المحدث والقدرة من الناحية العلمية ترتبط بالزمن وبالتعبير الرياضي فإن القدرة = المعدل الزمني لبذل الشغل».
إذاً الزمن يتناسب تناسباً عكسياً مع القدرة.. بمعنى أن القدرة كلما زادت قلت قيمة الزمن، فلو كانت القدرة متناهية في الكبر يكون الزمن متناهياً في الصغر، أما لو كانت القدرة المحدثة لحدث ما هي قدرة موجد الزمن «الله» فإن الحدث يتم في لا زمن، والحق تعالى أحدث هذه الرحلة في زمن بسيط بالنسبة لنا، لكنه بالنسبة لله لا زمن لنقتنع، لأن عقلنا لا يسمح لنا بتقبل الأحداث اللازمنية.
«وبتقدم العلم ورحلات الفضاء والانتقال من كوكب إلى آخر بسفن الفضاء لم يعد هناك أدنى شك في حدوث رحلة الإسراء والمعراج فإذا كانت قدرة البشر قد أتاحت لهم الانتقال في الفضاء وهم ذوو قدرة محدودة فما بالنا بقدرة خالق هذا الإنسان؟».