أدوات الهيمنة الصينية

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

هال براندز *

تجمع حملة الصين للهيمنة على العالم بين الطموحات التقليدية وأساليب القرن الحادي والعشرين. ويتجلى ذلك في سعيها المستمر لتوسيع دائرة نفوذها عالمياً؛ بحيث ترسم محيطاً مناسباً لها تسيطر عليه بقوة مثل كل الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة. إنها تطمح لخلق نطاقات جيوسياسية تحمي مصالحها، وتراعي صلاحياتها.
والمتابع للأنشطة الصينية يجد أن بكين تحاول بلوغ أهدافها جزئياً؛ من خلال نهج العصر الرقمي للتنافس الاستراتيجي، وهو نهج يجبر منافسيها على إعادة التفكير في ماهية مجالات النفوذ، وأفضل طريقة لمنافستها على ذلك النفوذ.
 ويشير مصطلح «نطاق النفوذ» إلى منطقة يمكن فيها لدولة كبيرة ممارسة سلطتها على الجهات الفاعلة الأصغر، وإبعاد منافسيها من القوى العظمى. وقديماً سعت القوى الطموحة إلى رسم مناطق نفوذ لأربعة أسباب أساسية؛ هي: الحماية، أي أنها تضمنت حاجزاً استراتيجياً ضد المنافسين؛ والتمترس، أي إنشاء قاعدة آمنة يمكن من خلالها ممارسة التأثير العالمي؛ والربحية، أو تأمين طريقة لاستخراج الموارد، والوصول إلى الأسواق وتسخير الاقتصادات الأصغر لمصلحتها؛ والهيبة، بحيث تكون منطقة النفوذ رمزاً للمكانة في مواجهة القوى الصغرى والقوى الكبرى على حد سواء.
 إلا أن الخصائص المميزة لمناطق النفوذ تغيرت مع الزمن. ففي القرن التاسع عشر، تمتعت بريطانيا بما يمكن اعتباره إمبراطورية غير رسمية في أمريكا الجنوبية؛ حيث كانت تمارس نفوذها في المقام الأول من خلال تفوقها المالي والتهديد الذي تفرضه البحرية الملكية. بعد الحرب العالمية الثانية، سيطر الاتحاد السوفييتي على أوروبا الشرقية بيد أثقل، أعادت تشكيل الحكومات في صورتها الشيوعية، بينما تستخدم أساليب الجيش الأحمر لفرض الانضباط الجيوسياسي على البلدان الواقعة في قبضتها.
بعد الحرب الباردة، بدا أن مجالات النفوذ قد اختفت، لأنه لم يكن هناك سوى قوة عظمى واحدة - الولايات المتحدة - وكانت مصممة على حرمان أي منافس من مثل هذه الامتيازات.
 وقد أعلن جو بايدن في عام 2009 وكان نائباً للرئيس أوباما، صراحة أن واشنطن: «لن تعترف بأي دولة لديها نطاق نفوذ»؛ لكن بدا من الواضح أن الصين تمتلك أفكاراً أخرى. فمشروعها الجيوسياسي يمتاز ببعض الأساليب التي قد يجدها محللو المنافسات السابقة مألوفة، والبعض الآخر يجدها أكثر حداثة.
 وتهدف الصين إلى خلق مجال نفوذ تقليدي في شرق آسيا وأماكن أخرى حول محيطها المباشر. لقد أنشأت علاقات تجارية واستثمارية تهدف إلى جعل اقتصادات المنطقة أكثر تمحوراً حول بكين. إنها تستخدم قوتها العسكرية المتنامية للضغط على تايوان، بشأن تحقيق مطالب موسعة في بحر الصين الجنوبي، ولإجبار الدول في جميع أنحاء المحيطين الهندي والهادئ على التفكير ملياً قبل إثارة غضب بكين.
 وتحاول الصين دق أسفين بين الولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها؛ بحيث يمكن إخراج واشنطن من المنطقة تماماً، كما فعلت واشنطن عندما قامت بطرد منافسيها الأوروبيين من منطقة البحر الكاريبي. وتستخدم الصين حملات التأثير السياسي، والمساعدات الموجهة إلى المسؤولين، وغيرها من التدخلات الهادئة لتحريف سياسات المنطقة لمصلحتها.
في الوقت نفسه تنقل الصين لعبة نطاقات النفوذ إلى القرن الحادي والعشرين، من خلال البحث عن مجال أوسع لا يعترف بالجغرافيا أكثر من التكنولوجيا.
 ومن متابعة الطرق التي تبني بها بكين العلاقات التكنولوجية؛ نجد أن تلك الاستراتيجية من شأنها أن تربط البلدان عبر أوراسيا وخارجها. فالشركات الصينية التي تمد كابلات الألياف الضوئية وتنشئ مراكز البيانات التي تشكل العمود الفقري المادي للإنترنت؛ ومشروع طريق الحرير الرقمي يضع الشركات الصينية في قلب شبكات الاتصالات المتقدمة في جميع أنحاء العالم النامي. وكذلك الانتشار العالمي لتقنيات المراقبة الصينية؛ وظهور عملة رقمية صينية؛ تهدف إلى أن تكون وسيلة للتبادل على طول مبادرة الحزام والطريق، كلها تؤكد إصرار الصين على بلوغ الأهداف بأي ثمن.
 وهذا المجال الناشئ للتأثير التكنولوجي في الصين؛ يهدف إلى توفير نفوذ جيوسياسي؛ عبر المركزية التكنولوجية بدلاً من الهيمنة المادية.
 وإذا كانت حدود هذا المجال فضفاضة نسبياً ومتطورة، فإن الآثار الاستراتيجية ستكون بالغة الأهمية. فإنشاء البنية التحتية الرقمية - من قبل شركات مثل «هاواوي»و«زد تي إي» الملزمة قانوناً بالتعاون مع الحزب الشيوعي الصيني - ينتج عنه حدوث تأثير اقتصادي كبير ناهيك عن عمليات التجسس. وسيؤدي توفير معدات المراقبة عالية التقنية إلى ربط بكين بشكل أوثق بالحكام المستبدين الذين تساعدهم في المحافظة على السلطة.
 وسوف يساعد إنشاء أسواق جديدة للتكنولوجيا الصينية، ومصادر جديدة للبيانات لخوارزمياتها، في تعزيز الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي ومجالات أخرى. كما يساعد التأثير التكنولوجي المتنامي للصين على اصطفاف الدول الصديقة وراءها في قضايا عالمية حساسة بدءاً من حوكمة الإنترنت وحتى قيادة المنظمات الدولية الرئيسية.
* أستاذ في كلية الدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ التاريخ في جامعة هوبكنز

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

مقالات أخرى للكاتب