العوامل الهيكلية تحد من مخاطر التضخم

18:23 مساء
قراءة 4 دقائق

جيتا جوبيناث *

بعد انتهاء عام 2020 بنجاح فعال وقوي للقاح، وأمل في انحسار الجائحة والضائقة الاقتصادية اللتين تسبب فيهما «كوفيد-19»، استيقظنا في عام 2021 على حقيقة المتغيرات الفيروسية الجديدة والطريق المتعرج الذي لا يمكن التنبؤ به والذي يمكن أن يقود العالم إلى أسفل الهاوية.

وبالحديث عن التضخم فإن شيئاً مماثلاً حدث بالفعل. ففي نهاية العام الماضي، وبعد الانهيار التاريخي للاقتصاد العالمي المقدر سلباً ب (-3.5%)، كان التضخم أقل من الهدف في 84% من البلدان. ومن المتوقع أن يسمح ذلك باستمرار انخفاض أسعار الفائدة والإنفاق الحكومي لدعم النمو، خاصة في الاقتصادات المتقدمة.

وتحدت خطة الولايات المتحدة في إنفاق 1.9 تريليون دولار إضافي وجهة النظر هذه، حتى أن الاقتصاديين المتشائمين تقليدياً أثاروا مخاوف بشأن الاقتصاد المحموم الذي قد يدفع التضخم إلى مستويات أبعد عن راحة بال محافظي البنوك المركزية.

تجعل الأدلة المستمدة من العقود الأربعة الماضية ذلك الأمر بعيد الاحتمال، وحتى مع الحزمة المالية المقترحة، ستشهد الولايات المتحدة ارتفاعاً في ضغوط الأسعار التي تدفع بالتضخم بشكل مستمر فوق هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 في المئة. وعلى الرغم من التقلبات الكبيرة في معدل البطالة في البلاد، من 10% في عام 2009 إلى 3.5% في عام 2019، ظل التضخم مستقراً بشكل ملحوظ بالرغم من ارتفاع الأجور. واعتباراً من الآن، فإن فجوات التوظيف لعام 2008 في الولايات المتحدة كبيرة ولا يتم تقديرها من خلال معدلات البطالة الرئيسية.

وبحسب تقديراتنا الأولية، فإن الحزمة الأمريكية المقترحة، والتي تعادل 9% من إجمالي الناتج المحلي، ستزيد هذا الإجمالي للولايات المتحدة بنسبة تراكمية تتراوح من 5% إلى 6% خلال ثلاث سنوات. وسيبلغ التضخم، وفقاً لمؤشر بنك الاحتياطي الفيدرالي، حوالي 2.25% في عام 2022، وهو أمر لا يدعو للقلق، بل سيساعد في الواقع على الوصول إلى الأهداف المحددة ضمن إطار سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي.

هناك عدة عوامل هيكلية تكمن وراء هذه العلاقة المتناقصة بين التضخم والنشاط الاقتصادي في العديد من البلدان، وعلى رأسها «العولمة» التي حدت من التضخم في السلع التجارية وحتى بعض الخدمات. في هذه الأزمة، وعلى الرغم من بعض الاضطرابات المبكرة، أظهرت سلاسل التوريد العالمية مرونة ورشاقة، وتعافت تجارة البضائع بالتوازي مع الانتعاش في التصنيع، متجاوزة مستويات ما قبل الوباء. ولا يزال هناك ركود كبير ملحوظ في الاقتصاد العالمي، مع توقع انخفاض دخل الفرد في أكثر من 150 دولة في عام 2021 مقارنة بعام 2019.

العامل الثاني هو «الأتمتة» والتي، إلى جانب الانخفاض النسبي في أسعار السلع الرأسمالية (الأصول الملموسة)، قد حالت إلى حد كبير دون الموازنة بين الأجور المرتفعة والأسعار. ومن المرجح أن تؤدي هذه الأزمة إلى تسريع هذا الاتجاه.

هناك اتجاه هيكلي آخر على مدى العقود الماضية وهو هيمنة حصة السوق من قبل الشركات ذات هوامش الربح العالية. ما سمح لها بامتصاص التكاليف المرتفعة دون رفع الأسعار، تماماً مثلما حدث بعد زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية. ومن المحتمل أن تؤدي هذه الأزمة إلى زيادة الحصة السوقية لمثل هذه الشركات، حيث تضررت الأصغر منها أكثر من الشركات الكبيرة بسبب الانكماش المرتبط بالوباء.

عامل آخر مهم وهو أن توقعات التضخم ظلت مستقرة على نطاق واسع حول الأهداف التي حددتها البنوك المركزية، وذلك بفضل استقلالية هذه البنوك ومصداقية سياساتها. وهذه المصداقية تعني أيضاً أنه حتى مع ارتفاع الديون الحكومية، لا يوجد توقع بأن السياسة النقدية ستعطي الأولوية لإبقاء تكاليف الاقتراض الحكومية منخفضة على حساب التضخم المرتفع. على سبيل المثال، بلغ متوسط الدين الحكومي الياباني أكثر من 200% من الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2009، ومع ذلك تمثل التحدي في رفع توقعات التضخم. وفي الواقع، بلغ معدل التضخم في اليابان 0.3% فقط خلال العقد الماضي.

ومع ذلك، لا ينتقص أي مما ذكر من الحاجة إلى اتباع مبادئ سليمة في إدارة وتسيير السياسة.

أولاً، على الرغم من محدودية المخاطر التي تنبئ بحدوث ارتفاع حاد في التضخم، فإن الإنفاق العام المستهدف جيداً سيحقق نفس القدر من التحسن في الوظائف والإنتاج مع تراكم أقل للديون، مما يترك مساحة أكبر للإنفاق المستقبلي الذي يحمل معه فوائد اجتماعية مرتفعة. ومن شأن الاستثمار العام عالي الجودة أن يرفع حجم الإنتاج المتوقع، ويزيد الطلب، وأن يكون محورياً ضمن استراتيجية شاملة للتخفيف من آثار تغير المناخ والتخفيف من المخاطر الكارثية الناجمة عن ذلك.

ثانياً، نظراً لحالة عدم اليقين التي لا مثيل لها في التاريخ تقريباً، فإن الاستقراء من الماضي أمر محفوف بالمخاطر. وبسبب تدابير السياسة الاستثنائية في عام 2020، بما في ذلك الإنفاق المالي من قبل دول «مجموعة السبع» بنسبة 14% من الناتج المحلي الإجمالي، وأعلى بكثير من نسبة 4% التراكمية من الناتج المحلي الإجمالي التي تم إنفاقها خلال سنوات الأزمة المالية 2008-2010، وصلت معدلات ادخار الأسر في الاقتصادات المتقدمة إلى أعلى مستوياتها في عدة سنوات، كما انخفضت حالات الإفلاس بنسبة 25% عما كانت عليه قبل هذا الوباء. ومع انتشار الحماية التي توفرها اللقاحات على نطاق واسع، يمكن أن يؤدي الطلب المكبوت إلى انتعاش قوي ويتحدى توقعات التضخم المستندة إلى أدلة من العقود الأخيرة. 

من ناحية أخرى، ربما تكون حالات الإفلاس قد تأخرت فقط، وزيادتها في النهاية يمكن أن تضعف الثقة وتضعف التضخم وتزيد من حالات البطالة.

أخيراً، هناك خطر اضطراب السوق الذي يمكن أن ينجم عن اكتشاف سلالات فيروسية جديدة، أو تقلبات مؤقتة في معدلات التضخم، أو احتمال رفع البنوك المركزية الرئيسية لأسعار الفائدة في وقت أقرب مما كان متوقعاً.

* المستشار الاقتصادي لصندوق النقد الدولي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المستشار الاقتصادي لصندوق النقد الدولي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"