حملة لتشويه الأيديولوجية القومية

00:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

عودة لموضوع الأيديولوجية القومية العربية. فقد بيّنا في مقال سابق توفر التاريخ العربي – الإسلامي المشترك المتفاعل المتشابك أثناء فترات العديد من أشكال وأسماء أنظمة الحكم في بلاد العرب، عبر ما لا يقل عن ثمانية قرون متواصلة، ومعه انتشار وترسخ اللغة الواحدة العربية، وفي قلبه بناء وتجذّر أشكال كثيرة من مكونات الثقافة العربية الواحدة، وبالتالي الهوية العروبية الواحدة.
   ثم بيّنا انقطاع أو تعثر ذلك أثناء الحكم العثماني لقسم كبير من أرض العرب. حتى إذا وصل ذلك الحكم إلى نهايته منذ قرن من الزمن، وتأثراً بقيام الأيديولوجيات والهويات القومية والدول في أوروبا على الأخص، وكردّ على نتائج معاهدة سايكس – بيكو التجزيئية الاستعمارية، طرح حزبا البعث العربي الاشتراكي والناصري وحركة القوميين العرب، أيديولوجية قومية عربية تكونت من ثلاثة شعارات كبرى: الوحدة العربية والحرية والاشتراكية (أو العدالة الاجتماعية).
  لكن تلك الأيديولوجية، بأشكالها وظلالها المختلفة، تعثرت لأسباب كثيرة، بما فيها وجود بعض النواقص في فكرها وأهدافها. من هنا جاءت المراجعة التي انتهت إلى إضافة ثلاثة مرتكزات أخرى إلى تلك الأيديولوجية، هي: الديمقراطية والتنمية الشاملة المستدامة والتجديد الحضاري.
  هل إن تلك الخلفية الموغلة في تاريخ مسيرة عربية مشتركة كبرى، وتلك الأهداف النبيلة القادرة، إن تحقق حتى جزء منها، على إنقاذ هذه الأمة من تخلفها التاريخي، وهوية العروبة التي بنيت عبر قرون وكانت أساس لغة واحدة وثقافة وعادات وعقائد وسلوكات متشابهة إلى أقصى حدود التماثل، وارتباط المصالح عبر تلك المسيرة... هل كل ذلك قابل لوصفه من قبل البعض بأنه أوهام وأحلام يقظة، وأن الأيديولوجية المنبثقة عنه غير قابلة للتحقق؟
   نعم، قد نختلف حول أسلوب تحقيق تلك الأهداف، فالبعض يريده في شكل ثورات جذرية، والبعض الآخر يريده كخطوات تدريجية، وعن طريق نضال ديمقراطي سلمي.
   نعم، قد نختلف حول أولويات شعارات تلك الأيديولوجية. فالبعض يعطي الأولوية للانتقال إلى الديمقراطية في كل قطر عربي قبل أي خطوة أخرى، والبعض يرى أن كثرة وشدة بأس الأعداء يتطلب إعطاء الأولوية لنوع من توحد جهود وإمكانات كل الأقطار العربية في شكل شبكة وحدوية متماسكة للتعامل مع الأعداء بندية، وبقدرات ذاتية.
  وهناك حتماً خلافات حول تفاصيل كثيرة تتعلق بالتنمية والديمقراطية والتجديد الحضاري، وهي مواضيع حديثة ومختلف حولها، حتى في مواطنها الأصلية.
  ومن المؤكد أن مبادئ القيم والأخلاق والسمو الروحي الإسلامية ستكون معيناً لهذه الأيديولوجية في عدم السماح للجوانب البراجماتية أن تنقلب إلى انتهازية، وللجوانب المادية أن تتحكم، أو تعلو على توازنها مع الروحي، ولمنطلقات الحق والعدالة والميزان ألا تبتذل، وتقبل بوجود أي امتيازات سياسية واقتصادية أو اجتماعية غير مستحقة لهذه الجماعة، أو تلك. وهذا أيضاً سيكون محل جدال.
  لكن كل ذلك لا يبرر استبدال أيديولوجيات أخرى لا ترتبط بعمق وجودي مع حاجات الواقع العربي، بالأيديولوجية القومية العروبية الوحدوية. فمثلاً من المؤكد أن استعارة وتبيئة أجزاء من الأيديولوجية الليبرالية الغربية الكلاسيكية والأيديولوجية الاشتراكية الماركسية سيكون ضرورياً لإغناء أيديولوجيتنا، ولتحديثها، وعصرنتها. لكن ذلك شيء، والمساس بالجوانب الوجودية المفصلية في الأيديولوجية القومية، كوحدة الأمة العربية والوطن العربي الكبير، شيء آخر.
  ما يهم بالدرجة الأولى هو أن يدرك شباب وشابات هذه الأمة، من الملتزمين بالنضال الجماهيري والمنخرطين فيه، أن الحملة الثقافية الاستعمارية والإسرائيلية، ومن بعض الدوائر والرجعية، من خلال أبواقها الإعلامية وكتبتها، وبعض مثقفي الردة وتبديل الجلود حسب الحاجة، هي محاولة مشبوهة لإيقاف مسيرة هذه الأمة لاستعادة كيانها وحيويتها والنضال من أجل آمالها وأحلامها الواقعية المشروعة.
  إنها حملة هجوم على ذاكرة الأمة، وفكرها الوحدوي، وتطلعاتها المستقبلية تحت مسمى الابتعاد عن الأيديولوجيات، حتى لو كانت إنسانية سلمية منفتحة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"