العملات الرقمية المشفرة.. حقيقـة أم مجرد وهـم؟

22:20 مساء
قراءة 5 دقائق

توبياس أدريان *

تتمتع الأشكال الرقمية الجديدة من النقود بقدرتها على توفير أنظمة دفع أرخص وأسرع، وتعزيز الشمول المالي، وتحسين المرونة والمنافسة بين مقدمي خدمات الدفع، بالإضافة إلى تيسير تحويلات الأموال عبر الحدود.

ولكن الوصول إلى تلك المرحلة ليس بالأمر الهيّن. فهو يتطلب استثمارات كبيرة، واختيارات سياسية صعبة، مثل إيضاح دور القطاعين العام والخاص في توفير أشكال النقود الرقمية ووضع قواعدها التنظيمية.

وهناك بعض البلدان التي قد تغريها الطرق المختصرة، كاعتماد الأصول المشفرة بمثابة عملات وطنية. وبينما كثير من هذه الأصول آمنة بالفعل، ويسهل الحصول عليها، وذات تكلفة تداول منخفضة، إلا أن المخاطر والتكاليف تفوق في معظم الحالات المنافع المحتملة.

والأصول المشفرة هي رموز يصدرها القطاع الخاص تستند إلى تقنيات التشفير، ومقومة بوحدة حساب خاصة بها، ويمكن أن تكون قيمتها شديدة التقلب. فعلى سبيل المثال، بلغت قيمة عملة ال «بيتكوين» الرقمية ذروتها عند 65 ألف دولار في شهر إبريل/نيسان الماضي، ثم هوت إلى أقل من نصف هذا المبلغ بعد شهرين فقط.

ومع ذلك، فإن ال «بيتكوين» لا تزال حقيقة قائمة. وبالنسبة للبعض، تمثل هذه الأصول المشفرة فرصة لإجراء تعاملات مجهولة، جيدة كانت أم سيئة. وبالنسبة لشريحة أخرى، تعتبر وسيلة لتنويع المحافظ وحيازة أدوات للمضاربة باستطاعتها جلب ثروات طائلة، لكنها بالمقابل قد تنتهي بخسائر فادحة أيضاً.

وبالتالي تختلف الأصول المشفرة اختلافاً جوهرياً عن غيرها من أنواع النقود الرقمية. وتنظر البنوك المركزية حالياً في إمكانية إصدار عملات رقمية تُعد بمثابة التزام على البنك نفسه. وتعمل الشركات الخاصة أيضاً على التوسع في هذا المجال، من خلال نقود يمكن إرسالها عبر الهواتف المحمولة، وهي آلية تحظى بشعبية كبيرة في شرق إفريقيا والصين، أو من خلال العملات الرقمية المستقرة، والتي تعتمد قيمتها على مدى أمان وسيولة الأصول الداعمة لها. 

لا تزال عملة ال «بيتكوين» والعملات الرقمية الأخرى تستخدم على هامش معاملات التمويل والمدفوعات، ومع ذلك تعمل بعض البلدان ليس على منح الأصول المشفرة إطاراً قانونياً كاملاً فحسب، بل على جعلها أيضاً العملة الوطنية الثانية، وربما الوحيدة.

وإذا ما تم منح الأصول المشفرة حالة قانونية ما، فسوف يتعين على الدائنين قبولها في سداد التزاماتهم النقدية، بما فيها الضرائب، على غرار العملة العينية الصادرة عن البنك المركزي.

ويمكن للبلدان أن تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، بسن قوانين تشجع من خلالها استخدام الأصول المشفرة كعملة وطنية، أي كوحدة نقد رسمية، ووسيلة دفع إلزامية مقابل المشتريات اليومية.

في المقابل، من غير المرجح أن تنتشر الأصول المشفرة في البلدان ذات معدلات التضخم وأسعار الصرف الثابتة والمؤسسات الموثوقة. فلن يكون الحافز كبيراً، سواء للأفراد أم للشركات، لتسعير المنتجات أو الادخار بأصول مشفرة موازية مثل «بيتكوين» وغيرها، حتى وإن تم منحها صك اعتماد وغطاء قانونياً. فقيمتها تبقى شديدة التقلب ولا علاقة لها بالاقتصاد الحقيقي.

وحتى في الاقتصادات الأقل استقراراً نسبياً، فإن استخدام عملة احتياطي معترف بها عالمياً كالدولار أو اليورو، سيكون أكثر جاذبية على الأرجح من اعتماد أي وسيلة أخرى.

صحيح أن الأصول المشفرة يمكن أن تصبح وسيلة دفع محببة بالنسبة للأشخاص الذين ليس لديهم حسابات بنكية، لكنها لن تستخدم لتخزين القيمة، وإنما سيتم تحويلها فور الحصول عليها إلى عملة حقيقية.

ولكن من جهة أخرى، فإن العملة الحقيقية قد لا تكون متاحة دائماً بسهولة، ولا يسهل تحويلها دون عناء. بالإضافة إلى ذلك، تحظر قوانين بعض الدول المدفوعات بأشكال أخرى من المال أو تقيدها. ومثل هذه الأمور قد تقلب موازين القوى وترجح الكفة نحو التوسع في استخدام الأصول المشفرة.

إن أكبر تكلفة مباشرة لاعتماد أصول مشفرة مثل «بيتكوين» على نطاق واسع سيتحملها استقرار الاقتصاد الكلي. ولو تم تسعير السلع والخدمات بعملة حقيقية وأصل مشفر على حد سواء، فسيمضي الأفراد والمؤسسات معظم وقتهم في اختيار شكل الأموال التي يجب الاحتفاظ بها بدلاً من الانخراط في الأنشطة الإنتاجية. وبالمثل، فإن الإيرادات الحكومية ستكون منكشفة على مخاطر سعر الصرف إذا تم تحديد الضرائب مسبقاً بالأصول المشفرة والنفقات غالباً بالعملة المحلية التقليدية، أو العكس.

بالإضافة إلى ذلك، فإن السياسة النقدية ستفقد فعاليتها. فالبنوك المركزية لا تستطيع تحديد أسعار الفائدة قياساً على العملات الأجنبية. وعادة، عندما تتبنى دولة ما عملة أجنبية كعملة وطنية لها، فإنها تستلهم مصداقية السياسة النقدية لمصدر تلك العملة، وتأمل في أن يواكب (اقتصادها وأسعار الفائدة) لديها دورة الأعمال الاقتصادية الأجنبية. غير أنه يستحيل تحقيق كلا الأمرين في حالة اعتماد الأصول المشفرة على نطاق واسع.

وحتى إذا تم تسعير كل شيء بعملة البيتكوين على سبيل المثال، فالأسعار المحلية والخدمات المستوردة معرضة للتذبذب وفقدان استقرارها إلى حد كبير نزولاً عند أهواء تقييمات السوق.

والنزاهة المالية كذلك معرضة للمخاطر. ففي ظل غياب تدابير فاعلة لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، قد تُستخدم الأصول المشفرة لتمرير مثل هذه الممارسات غير الشرعية، إضافة إلى التهرب الضريبي. وقد يشكل ذلك مخاطر على النظام المالي للبلد المعني، وعلاقاته مع البلدان الأجنبية والبنوك الوسيطة.

وبالإضافة لما سبق، فإن استخدام الأصول المشفرة على نطاق واسع من شأنه إضعاف حماية المستهلك. فقد تخسر الأسر والشركات أموالاً طائلة من خلال التقلبات الكبيرة في القيمة، أو أعمال الاحتيال، أو الهجمات السيبرانية. وعلى الرغم من أن التكنولوجيا التي تقوم عليها الأصول المشفرة أثبتت صلابتها الشديدة، فإن احتمالات وجود ثغرات تقنية أمر وارد. وفي حالة البيتكوين، من الصعب الطعن في أي عملية لعدم وجود جهة إصدار قانونية رسمية.

وأخيراً، فإن تعدين الأصول المشفرة يستلزم قدراً هائلاً من الطاقة الكهربائية لتشغيل شبكات الكمبيوتر التي تتحقق من صحة المعاملات. وقد تكون الانعكاسات البيئية لاعتماد هذه الأصول المشفرة كعملة وطنية وخيمة. 

إن اعتماد الأصول المشفرة، بما في ذلك عملة البيتكوين، كعملة وطنية ينطوي على مخاطر كبيرة على الاستقرار المالي العالمي، والنزاهة المالية، وحماية المستهلك، والبيئة. وفي نفس الوقت لا ينبغي إغفال المزايا التقنية التي تقوم عليها، كإمكانية توفير خدمات مالية أرخص وأسرع وأكثر شمولاً. وبين هذا وذاك، ينبغي للحكومات تكثيف جهودها لتوفير تلك الخدمات، والاستفادة من أشكال النقود الرقمية الجديدة، مع الحفاظ على الاستقرار والكفاءة والمساواة والاستدامة البيئية، وهي موازنة، في الغالب، ستكون صعبة.

* المستشار المالي ورئيس إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولي. وشارك في المقال: رودا ويكس براون، المستشار القانوني العام ومدير إدارة الشؤون القانونية في الصندوق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المستشار المالي ورئيس إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"