متى كان المتعاونون «مقاومين»؟

00:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

كان للعراق المحتل مقاومته الوطنية التي قاتلت قوات الاحتلال ببسالة، وألحقت بها خسائر بشرية ومادية جسيمة. كان ذلك، أساساً، بين عامي 2003 و2008 قبل أن يبدأ العد التنازلي فينفرط عِقْدها، أو قُل قبل أن تتبدد قواها بين انضمام هنا وانضمام هناك، كان أكثره ابتلاع مجالس الصحوات لقسم منها، ناهيك بالتحاق مقاتلين آخرين بالأطر العسكرية التي كانت تشرف عليها حركات دينية... إلخ.

 في ذلك الإبّان، كان أولئك الذين يطلقون على أنفسهم، اليوم، اسم «المقاومة العراقية» أداة من أدوات الاحتلال ينفذون ما استقر عليه التفاهم الأمريكي مع القوى الإقليمية في شأن «عراق ما بعد صدام»، وكانت قواهم السياسية - التي يشكلون أذرعها العسكرية - جزءاً من طيف سياسي أحاط به الاحتلال حكمَه العسكري (ثم «المدني» مع بريمر)، ووضع إياه في المواجهة إيهاماً للعالم بأن العراقيين يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وأنهم موافقون على وجود قوات أمريكية وأطلسية ل«تساعدهم» في «إعادة بناء» الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية. وكم من مرة شاركت تلك الميليشيات المتعاونة مع الاحتلال في قتال المقاومة، وبالتالي، في تقديم السخرة السياسية للاحتلال الذي أتى بها من خارج العراق.

 لم تكن المقاومة الوطنية العراقية من طيف واحد، أو من بيئة اجتماعية واحدة، بل كانت شاملة بيئات عراقية عدة. صحيح أن الغالب على تكوينها الانتماء إلى محافظات بعينها مثل محافظة الأنبار، غربي العراق، ومحافظات صلاح الدين، وديالي، ونينوى، ومناطق من بغداد مثل الدورة والأعظمية والعامرية واليرموك والغزالية وسواها في غربي بغداد وشمالها وجنوبها؛ وصحيح أن بيئتها السياسية والقتالية التي خرجت منها هي الجيش الوطني العرقي الذي حله الاحتلال وسرّح منتسبيه من الخدمة... ومع ذلك قاتل في صفوف المقاومة آلاف ينتمون إلى بيئات طائفية أخرى؛ في مدينة الثورة، أساساً، جنوبي بغداد وإلى حد ما في النجف والبصرة. قبل أن تقوم جماعات سياسية وعسكرية محسوبة على طرف إقليمي بشنّ حرب اجتثات لحركة المقاومة في النجف.

 انتهت تجربة المقاومة الوطنية للاحتلال مع بداية العقد الثاني من هذا القرن، ولم يبق في صورة القوى الحاملة للسلاح سوى تشكيلات مثل: الجيش الحكومي، الذي عماده ميليشيات القوى المتعاونة مع الاحتلال، والذي يشرف على تكوينه و«تأهيله» جيش الاحتلال؛ ثم الميليشيات غير النظامية المرتبطة بالقوى المتعاونة مع أمريكا أو القوى الإقليمية (وهي التي تطلق على نفسها، اليوم، اسم المقاومة!)؛ وميليشيات صحْوات العشائر، التي دفع الاحتلال والحكومات المتعاونة معه العشائر لتشكيلها قصد طرد تنظيم «القاعدة» من مناطقها؛ وأخيراً ميليشيات «داعش» المنشقة عن «القاعدة». 

 وإذ وقع تفكيك المقاومة، بمؤامرة من الاحتلال والحكومات وتورط من شيوخ بعض العشائر؛ وأعيدت حياكة معادلة الصّراع في العراق من صراع بين المقاومة والاحتلال إلى صراع بين العشائر و«القاعدة»؛ وإذ جرت ألوان من الاغتيال المعنوي للمقاومة الوطنية، ومحْو سياسيّ وإعلامي منهجي لاسمها ورسمها وذكراها، أتى مَن ينتحل صفتها، من غير وجه حق، ويفرض نفسه بوصفه التمثيل الرسمي لها! ولقد كان ذلك عملاً فاضحاً ومفضوحاً من قِبل مَن أَقدموا عليه؛ إذ متى كان المتعاونون مع الاحتلال مقاومين؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يزوّر حقائق التاريخ، إلى هذا الحد من الفضائحية، وكأن وقائعه جرت قبل آلاف السنين (ولم تكن مدوّنة) لا قبل سنوات خلت؟!

 ويزعم مَن يُسَمّون أنفسهم «مقاومة» في العراق أنهم اكتسبوا الصفة من قتالهم «داعش» وهزيمتها وطردها من الموصل. لكنهم لا يسألون أنفسهم مَن أنجب «داعش»، ومكّنها من الموارد البشرية التي جندتها، والبيئة الاجتماعية التي احتضنتها؛ أليست مذهبيتهم البغيضة المغلقة ما أوصل العراق إلى هذا المآل البائس؟ كنت قد نبهت في مقالة نُشِرت لي في هذا المنبر، قبل عشر سنوات (ولم تكن «داعش»، حينها، قد سيطرت على نصف العراق)، إلى المغبة التي ستقود إليها العصبية المذهبية الحاكمة، وسياسات القِصاص والثّأر التي انتهجتها تجاه بيئات أخرى باتت مظلوميتها تصطرخ، محذراً من أن تدفَع بها تلك المظلومية إلى مناصرة «القاعدة» و«داعش»، التي كانت في بداية تكونها وانتشارها في الفلوجة. ماذا حدث، إذن، غير ما حذّرتُ منه.

 ليست «داعش» سوى ذلك الوجه من عملة فاسدة وجهها الآخر هذه الميليشيات التي تسمّي نفسها «مقاومة». هما سِيان رديفان لبعضهما وشريكان في الفعل الآثِم عينه: تمزيق العراق شعباً ووطناً ودولة والعودة به إلى تكويناته البدائية!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"