الاتحاد الأوروبي والعلاقات الهولندية البريطانية

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

يعيش الاتحاد الأوروبي منذ قيام بريطانيا بتنظيم الاستفتاء على بريكست سنة 2016، في وضعية متأزمة ازدادت حدتها مع دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، وما نتج عن ذلك من تباين في مواقف دول الاتحاد بشأن التعامل مع موسكو؛ إذ إنه وعلاوة على الاختلاف التقليدي بين شرق أوروبا وغربها، هناك فجوة واضحة بين دول الشمال الاسكندنافية وهولندا من جهة وبين بقية دول أوروبا الغربية التي تضم دول الجنوب إضافة إلى ألمانيا من جهة أخرى. 
ويرى المراقبون أن المواقف الهولندية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي تشكل في العديد من أوجهها امتداداً لمواقف المملكة المتحدة مع اختلاف بسيط يتمثل في أن ثلثي المواطنين الهولنديين مازالوا متمسكين بعضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي لأسباب تتعلق في مجملها بمعطيات الجغرافيا السياسية التي تلعب دوراً كبيراً في حسم خيارات الدول والشعوب.
 ويعود هذا التقارب في المواقف بين بريطانيا وهولندا على المستويين القاري والدولي، إلى أسباب تاريخية وثقافية وإلى العلاقات التي تربط بين الشعبين البريطاني والهولندي، وذلك إلى الحد الذي جعل البعض يقول إن هولندا تمثل الآن صوت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي على الصعيدين الاقتصادي والسياسي على حد سواء؛ فعلى الصعيد الاقتصادي كانت هولندا تشارك لندن الرؤية نفسها بشأن معارضة سياسات بروكسل المتعلقة بالإنفاق ورفضت تقديم تنازلات فيما يتعلق بتمويل عجز الميزانية في دول الجنوب، ويتزعم مارك روته رئيس وزراء هولندا حالياً الدول الغنية في أوروبا والرافضة لكل المبادرات الهادفة إلى تقديم المعونات المالية للدول التي تعاني اقتصاداتها من عبء المديونية، وأطلق عليه دبلوماسيون إيطاليون وإسبان لقب السيد:«لا..لا..لا». أما على الصعيد السياسي فإن لندن وأمستردام تتبنيان المواقف نفسها بشأن معظم القضايا الدولية.
 وتشير المعطيات التاريخية والثقافية المتصلة بالعلاقات الهولندية – البريطانية، إلى أن إنجلترا كان لها دور كبير في الدفاع عن الأراضي المنخفضة ضد الهجمات التوسعية للدول الأوروبية الكبرى وفي مقدمتها فرنسا، حيث شارك الجنود الإنجليز إلى جانب الجنود الهولنديين في التصدي للجيوش الفرنسية؛ وهناك من الناحية الثقافية قرابة كبيرة بين اللسانين الإنجليزي والهولندي حيث يعود كلاهما إلى الأصل الجرماني، ويتحدث ما بين 90 و93 في المئة من الهولنديين اللغة الإنجليزية بطلاقة كبيرة، كما أن هناك توأمة ما بين 40 بلدة ومدينة هولندية وبريطانية. ويشعر الهولنديون أن هناك قواسم أنتروبولوجية مشتركة بينهم وبين البريطانيين لاسيما على مستوى التمثلات الاقتصادية، حتى وإن كان الهولنديون يعتبَرون أقل محافظة من البريطانيين على مستوى العادات والتقاليد.
 وتؤكد تصريحات الساسة الهولنديين بشكل لافت، على أهمية العلاقة مع المملكة المتحدة، حيث قال مارك روته إن الأراضي المنخفضة تمثل البلد الأكثر ارتباطاً بالفضاء العابر للمحيط الأطلسي من بين كل دول الاتحاد الأوروبي، وإن هولندا ترغب في لعب الدور الذي كانت تلعبه بريطانيا، وبخاصة أن هولندا وبريطانيا كانتا تتبنيان المواقف المعارضة نفسها لعدد كبير من المبادرات الفرنسية والألمانية داخل الاتحاد الأوروبي قبل إتمام إجراءات بريكست، وترغب أمستردام أيضاً في أن تضطلع بالدور نفسه الذي اضطلعت به لندن في الدفاع عن المصالح الأمريكية داخل الاتحاد الأوروبي. 
 ويذهب المتابعون للشأن الأوروبي، إلى أن هولندا هي الرابح الأكبر من بريكست، إذ إن أغلبية الشركات البريطانية والأمريكية والآسيوية التي كانت تتخذ من لندن مركزاً لها، نقلت مقارها إلى أمستردام، وهناك تحولات كبرى عديدة تفيد بأن بورصة أمستردام باتت تمثل وجهة مفضلة للمستثمرين الكبار داخل أوروبا وخارجها، كما استطاعت هولندا أن تستقطب القسم الأكبر من الاستثمارات الأجنبية التي كانت موجهة في الأصل نحو بريطانيا.
 ويمكن القول إن بريطانيا مازالت تملك العديد من الأوراق الرابحة على مستوى التوازنات الحالية في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من مغادرتها له، إذ تعتمد لندن على نفوذها في شرق القارة من أجل فرض أجندتها الأمنية، وتراهن على هولندا في غرب القارة من أجل منع المحرِّك الألماني - الفرنسي من فرض تصوراته الاقتصادية والسياسية على باقي دول المجموعة الأوروبية.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"