المثالية الاقتصادية الألمانيــة فــي خطــر

22:36 مساء
قراءة 4 دقائق

أوليفر نويان*

بدت ألمانيا طبيعية خلال عطلة نهاية الأسبوع الأخير من الشهر الماضي؛ حيث رحّب المستشار اللطيف أولاف شولتز بقادة مجموعة السبع وضيوفهم في سفوح جبال الألب البافارية، لكن تلك المظاهر خادعة. فألمانيا تواجه أخطر تحدياتها منذ تأسيس الجمهورية الفيدرالية في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

عُدّت السنوات القليلة الماضية بمثابة طريق وعر حرص الاقتصاد الألماني على اجتيازه؛ حيث عانى عملاق التصدير العالمي، شأنه شأن الكثير من الاقتصادات الكبرى، من آثار الوباء، ونقص سلسلة التوريد العالمية، وبالطبع انخفاض واردات الغاز الروسي.

ولعقود من الزمن، كان الاقتصاد الألماني مدفوعاً بشكل أساسي بمحرك التصدير القوي، الذي تعتمد عليه حالياً حوالي واحدة من كل أربع وظائف هناك. ومع ذلك، يبدو أن نموذج العمل هذا معرض للخطر في ظل دخول العالم ما يجوز تسميته ربما «مرحلة أزمة مستمرة». وقد تم إرسال أول إشارة تحذيرية لهذا الخطر بالفعل في مايو/أيار الماضي عندما سجلت ألمانيا عجزاً تجارياً هو الأول منذ 14 عاماً.

وفي حين أنه قد يكون من المغري استبعاد هذا التطور الدراماتيكي باعتباره مدفوعاً فقط بارتفاع أسعار الطاقة ونقص الغاز الحالي، إلا أن هناك تلميحات بالفعل إلى أن الأزمة كانت موجودة لبعض الوقت قبل تصاعد الأحداث الأخيرة. على مبدأ أن المريض كان مريضاً بالفعل.

لطالما افتخرت ألمانيا بفائضها التجاري المرتفع، والذي يترافق في الغالب بالانزعاج الكبير من قبل شركائها الأوروبيين. لكن الفجوة بين الواردات والصادرات تتضاءل، وبدأنا نلحظ في السنوات الخمس الماضية انخفاضاً في الفائض التجاري عاماً بعد عام.

ولا شك في أن الوضع الجيوسياسي الحالي ليس متناغماً مع ماكينة الصناعة الألمانية. ففي السنوات الأخيرة اعتمدت المعجزة الاقتصادية الألمانية على مزيج من البراعة الصناعية، والطاقة الرخيصة من روسيا، والوصول إلى الأسواق العالمية. اليوم كل واحدة من تلك الركائز مهددة، وأصبح التمسك بهذا النموذج حملاً صعباً بشكل متزايد على كاهل رابع أكبر اقتصاد في العالم. فإتقان ألمانيا لتكنولوجيا السيارات خلال قرن من الهندسة يواجه تحدياً من خلال التحول إلى السيارات الكهربائية. كما تواجه صناعة الكيماويات، التي قادت التكنولوجيا الألمانية العالم فيها منذ القرن التاسع عشر، تحديات بيئية إضافية مع اشتداد المنافسة العالمية.

وتتفاقم هذه التحديات بسبب فقدان الغاز الطبيعي الروسي الرخيص والآمن. والطاقة الخضراء، على الرغم من الاستثمارات الألمانية الضخمة، لن تكون قادرة على إمداد الصناعة الألمانية بقوة موثوقة ورخيصة لفترة طويلة.

وبما أن روسيا خارج المشهد بالفعل بسبب الحرب في أوكرانيا، تتطلع ألمانيا بشكل متزايد إلى علاقاتها التجارية الصينية «المتغيرة إلى الأسوأ» بقلق بالغ. وإذا تعرضت تلك العلاقات لضربة، فإن الاقتصاد الألماني سيعاني بشكل كبير. فالصين هي الشريك التجاري الأكبر لألمانيا وهي لا تغذي فقط صناعة التصدير القوية للبلاد، لكنها ضرورية أيضاً للحفاظ على دوران المحرك الصناعي الألماني من خلال توفير المواد الخام الضرورية وغيرها من السلع التي هي في أمس الحاجة إليها.

لطالما كانت الصين الزبون المثالي للمنتجات الألمانية. لكن هذا الاعتماد الكبير عليها يتسبب بالفعل في مشاكل للحكومة الألمانية. إذ قال وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر في منتصف إبريل/نيسان الماضي: «من الواضح لنا جميعاً أن هذه العلاقة الثنائية القوية جداً بين ألمانيا كدولة مصدرة والصين لن تحمل معانٍ إيجابية فقط». وتدرك الشركات الألمانية جيداً التهديد الذي يلوح في الأفق، فقد أظهرت دراسة أجراها معهد «ifo» أنه بينما تقول 46% من جميع الشركات الألمانية أنها تعتمد حالياً إلى حد كبير على الواردات الصينية، يعترف أكثر من الثلثين بأنهم يبحثون عن تنويع سلسلة التوريد الخاصة بهم.

يحذّر العديد من المحللين والسياسيين حالياً، بما فيهم المستشار الألماني نفسه، من أن العالم قد ينقسم إلى كتلتين «جيو-اقتصاديتين»، واحدة تتماشى مع الغرب وأخرى تعمل بشكل وثيق مع الصين وروسيا. كما حذّر سيجفريد روسورم، رئيس اتحاد الصناعات الألمانية في يونيو من أن هناك خطأ واحداً يجب ألاّ ترتكبه ألمانيا، وهو تشجيع تشكيل الكتل وتفكيك الاقتصاد العالمي من خلال تقسيمه إلى معسكرات أيديولوجية.

أما أكيم تروجر، أحد كبار الخبراء الاقتصاديين والمستشار في الحكومة فقال: «قد تكون هذه بداية فترة أضعف لألمانيا. إذا نظر أي شخص إلى ألمانيا على أنها نموذج يحتذى، فربما حان الوقت للحصول على نظرة واقعية أكثر عن نقاط القوة والضعف، لم يعد أحداً مثالياً»

وعلى الرغم من أنها صمدت بشكل أفضل من منطقة اليورو ككل خلال الوباء في عام 2020، فإن اقتصادها لم ينتعش بقوة مثل الكتلة في عام 2021 ومن المتوقع أن يتأخر هذا العام. وتتوقع المفوضية الأوروبية أن تنمو ألمانيا بنسبة 1.6% هذا العام مقارنة ب 3.1% لفرنسا و4% لإسبانيا.

وبينما يبقى أن نرى ما إذا كان نموذج الأعمال الألماني القائم على التصدير سينجو من الأزمات العديدة التي يواجهها العالم، هناك شيء واحد مؤكد وهو أن النهج الألماني التقليدي للشراء من أقل المُورّدين كلفة، بغض النظر عن أي شيء آخر، قد وصل إلى طريق مسدود.

 *مراسل السياسة والاقتصاد في «يوروآكتيف» *ذا بريف - يوروآكتيف

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مراسل السياسة والاقتصاد في «يوروآكتيف»

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"