عادي

«مرفأ بيروت».. جبل جليد تحت الماء

23:18 مساء
قراءة 4 دقائق
مروحية تحاول إخماد النيران في مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020 (ا ف ب)

د. محمد عباس ناجي

ما زال السؤال عن الجهة، أو الجهات، المسؤولة عن انفجار مرفأ بيروت بلا إجابة حتى الآن، على الرغم من حلول الذكرى الثانية للانفجار في 4 أغسطس الجاري. فالتحقيق الذي فُتِح بعد الانفجار، الذي خلّف 215 قتيلاً ونحو 6 آلاف جريح وأسفر عن تدمير مساحات واسعة في العاصمة واعتبر أحد أكبر الانفجارات غير النووية التي شهدها العالم، تعرّض للتجميد منذ آخر جلسة عقدها القاضي طارق بيطار في 23 ديسمبر الماضي.

العنوان الأبرز لتجميد التحقيق في انفجار المرفأ تمثل في عدم توقيع مرسوم تشكيلات محكمة التمييز التي تنظر في الدعاوي التي رفعها بعض المدعى عليهم ضد القاضي طارق بيطار؛ حيث استند وزير المالية يوسف الخليل في رفض التوقيع إلى خشيته من تأثيره في «التوازن الطائفي».

إلا أن ذلك قد يمثل جبل الجليد الذي تظهر قمته فقط في حين يختفي قسمه الأعظم تحت الماء. فالمسألة لا ترتبط فقط بحسابات داخلية، أو اعتبارات قانونية أو إدارية، وإنما تتعلق بمتغيرات خارجية لها تأثيرات وانعكاسات واضحة على المشهد السياسي الداخلي في لبنان.

حسابات طهران وواشنطن

أول هذه المتغيرات يتعلق بتأثير التفاهمات الحالية التي تجري بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول الاتفاق النووي الإيراني. فعلى الرغم من أن واشنطن تبدي اهتماماً خاصاً، على غرار باريس والعديد من المنظمات الدولية، باستئناف التحقيق في الانفجار، وتحديد هوية المسؤولين عنه ومعاقبتهم، وأكدت عبر «تغريدة» أصدرها حساب السفارة الأمريكية في بيروت أن «الشعب اللبناني يستحق العدالة»، إلا أنها لم توجه من الرسائل ما يفيد بأنها تمنح الأولوية لهذا الملف خلال المرحلة الحالية.

وهنا تحديداً، فإن ذلك لا يمكن فصله عن المحادثات التي تجري مع إيران حول الاتفاق النووي. فالتحقيق الذي تطالب جهات عديدة داخلية وخارجية باستئنافه يطال شخصيات ومسؤولين محسوبين على القوى السياسية الموالية لطهران، لاسيما حركة أمل، على نحو دفع حزب الله إلى شن حملة ضد التحقيق متهماً القاضي طارق بيطار بالتسييس ومهدداً ب«اقتلاعه» حسب الرسالة التي وصلته من وفيق صفا رئيس وحدة الأمن والارتباط بالحزب.

وفي رؤية الحزب، فإن التحقيق وما يمكن أن يستتبعه من إجراءات ومحاكمات وأحكام لا ينفصل عن الضغوط التي يتعرض لها من جانب قوى إقليمية ودولية مناوئة له، بسبب انخراطه في الأزمات الخارجية، بضوء أخضر من طهران، على غرار الصراع في سوريا والأزمة السياسية في العراق والحرب في اليمن. وربما يضع الحزب في حساباته في هذا السياق ما أشار إليه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، في 30 يوليو 2021، من أن كمية نترات الأمونيوم التي تسببت بالانفجار لا تمثل سوى 20% من الشحنة التي تم تفريغها في عام 2013، والتي تصل إلى 2754 طناً. ومع أن المكتب لم يحدد سبب ذلك، إلا أنه أضفى مزيداً من الشكوك على الاتهامات الضمنية التي توجه إلى الحزب في هذا السياق.

وفي كل الأحوال، فإن واشنطن ربما تفضل، على الأقل حتى الآن، عدم ممارسة ضغوط أقوى في هذا الملف تحديداً، تجنباً، على ما يبدو، لوضع مزيد من العقبات أمام المحادثات مع إيران، التي تواجه اختباراً صعباً في الوقت الحالي بسبب استمرار الخلافات العالقة حول بعض القضايا.

تداعيات الأزمة الأوكرانية

من دون شك، فإن استمرار تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية كان له دور في تراجع الضغوط الخارجية على القوى السياسية اللبنانية لاستئناف التحقيق في الانفجار. وهنا، فإن الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، تبدو منشغلة بإدارة المواجهة مع روسيا، التي تبدو حريصة بدورها على استئناف الحرب حتى تحقيق أهدافها، وتهدد في هذا السياق باستخدام ورقة الضغط الأقوى لديها التي تتمثل في إمدادات الطاقة إلى الدول الأوروبية، خاصة مع اقتراب حلول فصل الشتاء.

اهتمام واشنطن بالانخراط في إدارة الصراع مع روسيا بدا جلياً في القرار الذي اتخذته الإدارة الأمريكية، في 8 أغسطس الجاري، بتقديم مزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا، بقيمة مليار دولار، ليصل إجمالي المساعدات العسكرية إلى 9.8 مليار دولار منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2021.

وقد كان لافتاً أن هذا الانشغال الأمريكي بإدارة الصراع مع روسيا كان محور قراءة متأنية من جانب «حزب الله» وحلفائه في الداخل اللبناني. وربما من هنا يمكن تفسير حرص الحزب على توجيه تهديدات بالتسبب في التأثير في إمدادات الطاقة من المنطقة إلى الدول الغربية. إذ قال إنه «إذا كان الهدف منع لبنان من استخراج النفط والغاز، فلن يستطيع أحد أن يستخرج غازاً ونفطاً ولا أن يبيع غازاً ونفطاً أياً تكن العواقب».

بالطبع، فإن هذا التهديد مرتبط في الأساس بالنزاع القائم بين لبنان وإسرائيل حول حقول الغاز، الذي تبدي واشنطن اهتماماً بمواصلة المفاوضات لتسويته على نحو انعكس في الزيارة التي قام بها الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين إلى لبنان في بداية أغسطس الجاري للبحث في ملف ترسيم الحدود بين الدولتين.

لكن على الرغم من ذلك، فإن الأمر قد لا يكون منفصلاً عن محاولات الحزب تأكيد أن استمرار الضغوط في ملف الانفجار قد يفرض عواقب وخيمة تتمثل في تصعيد حدة الأزمة السياسية الداخلية، وربما توسيع نطاق التصعيد مع إسرائيل، بالتنسيق مع إيران أيضاً التي تسعى بدورها إلى الرد على العمليات التي تقوم بها تل أبيب سواء داخل أراضيها أو على الساحة السورية، إلى جانب التهديد بعرقلة إمدادات الطاقة من المنطقة إلى أوروبا.

مفترق طرق

إن ما سبق في مجمله يعني في النهاية أن لبنان أصبح على مفترق طرق. فاستمرار تجميد التحقيق في الانفجار كفيل بتأجيج أزمة سياسية جديدة بسبب تزايد الضغوط التي يفرضها الشارع على النخبة السياسية ومؤسسات الدولة من أجل تجاوز الإشكال الحالي الذي تسبب في هذا التجميد.

وقد بدا استياء الشارع جلياً في رفض عائلات الضحايا القرار الذي كانت قد اتخذته السلطات اللبنانية، في إبريل الماضي، بهدم بقية إهراءات (صوامع) الحبوب الموجودة في المرفأ تجنباً لسقوطها، وهو السيناريو الذي بدأ يحدث فعلاً، بعد أن سقطت أربع صوامع بالتزامن مع حلول الذكرى الثانية للانفجار، وكأنها سقطت لتذكير اللبنانيين والعالم بأن لبنان مقبل على استحقاقات صعبة ما لم يتم حسم التحقيق في الانفجار وتحديد ومعاقبة المسؤولين عنه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"