عادي
رامبرانت وقوة التعبير من خلال الفن

«عودة الابن الضال».. تجسيد المشاعر الإنسانية

00:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
1803

الشارقة: علاء الدين محمود

أكثر ما يميز أعمال ولوحات الفنان الهولندي رامبرانت هرمنسزون فان راين، «1606 1669»، تلك القوة التعبيرية الكبيرة، فضلاً عن ثقافته ومعرفته العلمية بنظريات الضوء والظلال، ومقدرته على معالجة موضوعاته بأسلوب مسرحي انفعالي، كما يحمل هذا الفنان الشهير ابن العاصمة أمستردام رؤى فلسفية يعبر عنها في رسوماته ويعكس خلالها القيم الإنسانية النبيلة لأفكاره وتأملاته الشخصية حول مصير الجنس الإنساني، كل هذه العوامل جعلته يعد ضمن كبار أساتذة فن الرسم الغربي. كان له أثناء حياته شأن كبير، واشتهر أيضاً بأعماله عن طريق الرسم بماء الذهب، وتأثر رامبرانت بالفنانَين كارفاجيو وروبنز، لكنه استخدم تأثيرات الضوء ورسم الألوان بحرية ليبرر الحالة العاطفية والنفسية.

على الرغم من أن رامبرانت لم يسافر كثيراً خارج بلاده إلا أنه تأثر كثيراً برسومات وأعمال الفنانين الإيطاليين الكبار وكذلك الهولنديين الذين درسوا في إيطاليا، وعلى الرغم من نجاحاته الكبيرة في رسم البورتريه في سن باكرة، إلا أن حياته اللاحقة شهدت العديد من المآسي الشخصية وعاش سنوات من الفقر، غير أن أعماله لقيت رواجاً كبيراً وتمتعت بشعبية طوال حياته، وصار مثلاً يحتذى، ليس في هولندا فقط، بل وفي بقية العالم، ومما يميزه أيضاً الغزارة في الإنتاج، حيث بلغت أعماله أكثر من 600 لوحة وبورتريه.

لوحة «عودة الابن الضال»، تعتبر واحدة من أهم وأشهر لوحاته، وتنتمي إلى أسلوبيته وفلسفته في الحياة، وكذلك ذلك الشغف بلعبة الألوان والتميز في استعمال الضوء والظل، أو العتمة وتوزيع الدرجات اللونية بحرية، وبصورة تبز الحالات النفسية في اللوحة، من فرح وحزن وأسى وشوق، وغير ذلك، وقام رامبرانت برسم هذه اللوحة في عام 1665؛ أي قبل وقت قصير من وفاته، ويقول البعض إن اللوحة التي اعتبرت من الأيقونات الفنية العالمية، هي الأخيرة للرسام، وبعيداً عن ذلك الجدل فإن ما يبدو واضحاً في الأمر هو أن اللوحة عكست الخبرة الفنية العميقة والتطور الأسلوبي لرامبرانت.

مشاعر

اللوحة رسمت بالزيت على القماش، ويظهر فيها عدة شخوص، لكن الشخصيات الرئيسية في اللوحة، هي الأب الذي يستقبل ابنه العائد بعد طول غياب، والذي ضل الطريق وابتعد عن العائلة، ويقف الأب في مشهد العمل وهو يحتضن ولده بحنان ومشاعر جياشة، ويتضح ذلك من خلال نظراته ووضعية يديه على كتف ولده، فيما الابن يبدو نادماً ويرجو عفو أبيه، وبينما يبدو الأب من الطبقة الثرية بلباسه وهيئته، فإن الابن يبدو في صورة بائسة بملابس مهترئة ورضوض على رأسه، ويبدو شكله متأثراً بسنوات الشقاء التي قضاها بعيداً عن البيت، ولا يريد من الحياة غير الحب الأبوي ودفء العائلة، فيما يقف إلى جانب الأب رجلان من العائلة، أو ربما هما صديقا الوالد، حيث يبدو عليهما الوقار، ولا يظهر عليهما شيء من المشاعر المتفاعلة مع اللحظة الإنسانية المميزة، أما الابن الأكبر في خلفية المشهد فيبرزه الرسام في لحظة فرح عارمة بعودة أخيه، وكذلك تظهر خلفه أخته والتي تبدو سعيدة بتلك العودة.

وصف

يصنع رامبرانت في هذه اللوحة مشهداً بديعاً، فهنالك أشخاص يقبعون في الظلال، بينما تسلط بقعة الضوء بطريقة أقرب إلى تقنيات المسرح على الوالد وابنه، بحيث يبدو كأنه المشهد الرئيسي في اللوحة، هذه الألوان الساطعة الموجهة نحو لحظة اللقاء ترمز بصورة أساسية إلى الحب والحنان والحياة الإنسانية التي يجب أن تسودها المودة، فالوالد في تلك اللحظة المؤثرة نسي تماماً كل غضبه على ابنه وزالت كل أسباب العتمة عن قلبه ولم تبق غير المودة والجمال، وكذلك الابن الذي عرف في هذه اللحظة أن لا شيء في العالم أكثر أمناً من البيت ولا معيناً أكثر من الأب، ولعل رامبرانت يضع المتلقي أمام هذا المشهد الشاعري العميق الذي صنعه ليحرضه على التأمل والتفكير، فالفنان يقدم انفعالاته وأفكاره عبر ضربات الفرشاة وتوزيع الألوان والضوء والظلال، ويقدم رؤية حول الحياة عبر أدوات الفن، فتلك الألوان الساطعة في مشهد الأب والابن كأنها تشير إلى أن شمساً جديدة تشرق في حياة تلك العائلة التي تستعد لمرحلة جديدة في حياتها حافلة بالمودة والرحمة والتضامن.

قصة

في هذه اللوحة يقدم رامبرانت تفاصيل قصة، ويسردها بتقنية الألوان والدلالات والرموز، يحكي عن ابن يعود إلى بيته بعد ترحال طويل في العالم، وأب كأنه ينتظر تلك العودة، أو بالأحرى، كأنه يعيش من أجلها، ويعمق لنا الفنان لحظة ارتماء الابن في حضن والده بعد أن تقطعت به السبل، ولم يجد مفراً من العودة، بحذائه المهترئ، الذي يرمز لفقدان القوة والتحمل، وانعدام كل وسيلة لتحقيق أي شيء، تلك القصة الملونة التي رسمها رامبرانت تشير إلى نهاية رهيبة للآمال غير المحققة، يأتي الأب لاستقبال ابنه ويضع يديه عليه، بينما الابن يكاد يسقط على الأرض في صورة رهيبة يتسرب أثرها مباشرة إلى الملتقي أو الناظر.

حوارية لونية

برع رامبرانت بصورة كبيرة في عملية توزيع الألوان الهادئة ودرجاتها المختلفة، خاصة تلك الخلطة العجيبة للماروني والأسود والأبيض ودرجات الأحمر والأصفر، فالألوان في اللوحة تعبر عن الشخوص الموجودين في المشهد، وكذلك عمل الفنان على توظيف الضوء والعتمة لإظهار المعاني التي تحفل بها اللوحة من حب وحنان وفرحة وغيرها من المشاعر الإنسانية القوية التي يمكن قراءتها في الوجوه، خاصة الابن والأب والأبناء في الخلفية، الأمر الذي صنع مشهدية محتشدة بالجمال وقوة الإبداع.

إبداع

يعتبر موضوع «عودة الابن»، من أكثر المواضيع شعبية في الرسم العالمي، وتناوله العديد من الفنانين في لوحاتهم كالرسامين الألمانيين هيرونيموش بوش، وألبرشت دورر، والفنان الإسباني موريللو، والرسام والكاتب الفرنسي جيمس تيسو، والباروكي جوفيرتشينو، غير أن رامبرانت كان شديد التأثر بذلك الموضوع وتفرد في معالجته وسكب فيه قوة إبداعية كبيرة، الأمر الذي كان له أثره في الناظر، فاللوحة محتشدة بالمعنى والرؤى الفكرية والتأملات الوجدانية.

الصورة
1
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yj6r2mj2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"