لبنان من الفراغ إلى المجلس الرئاسي

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. خليل حسين

ليست سابقة أن يدخل لبنان ظروفاً مجهولة الحدود، فتاريخه يعج بالظروف الضاغطة ذات التأثير الخارجي، ويمكن القول إن ثمة استحالة لتمرير استحقاق ما، من دون أثر واضح لقوى إقليمية ودولية في تدبيره، وإخراجه، وتنفيذه، لكن المفارقة اليوم هي غياب هذه الخاصية، بحيث يبدو كأن لبنان ترك لمصيره من دون أي التفاتة، أو رعاية، وإن وجد بعض ملامحها، فهو لا يعدو تقطيعاً للوقت.

دخل لبنان اليوم مرحلة التهيئة للفراغ الرئاسي، وهي الصورة الثالثة التي يمر بها لبنان بعد رئاستي إميل لحود وميشال سليمان، والمفارقة العجيبة هذه المرة أنها تكرس فراغاً بعد رئاسات أشخاص ذات خلفيات عسكرية، لكونهم أتوا من قيادة الجيش إلى الرئاسة، وهي ظاهرة مكرسة عملياً في الحياة السياسية اللبنانية، باعتبار أن أبرز مرشحي الرئاسة عادة ما يكون قائد الجيش. ورغم ذلك يأتي الاستحقاق الرئاسي وسط ضغوط غير مسبوقة، القوى الدولية والإقليمية الفاعلة لها انشغالاتها النوعية التي تستثمر في الأزمة اللبنانية بشكل يعقد الأمور، فيما الأوضاع الداخلية ازدادت انهياراً، ووصلت إلى مرحلة تحلل المؤسسات السياسية والاجتماعية والإدارية للدولة، بل غيابها تماماً.

والأكثر غرابة أن من يدير الأزمة، خارجياً وداخلياً، يتعمد في تأزيمها وإيصالها إلى فلتان أمني، بعد الاجتماعي والاقتصادي، لفرض أي مشروع حل، أو تسوية ما، على غرار ما حدث سابقاً في مختلف مراحل الأزمات اللبنانية الممتدة: الميثاق الوطني 1943، واتفاق القاهرة 1969 والوثيقة الدستورية 1976 والاتفاق الثلاثي 1985 ومشتقاته اللاحقة في جنيف ولوزان وسان كلو، وصولاً إلى اتفاق الطائف 1989 والدوحة 2008، وما يحكى عن إعادة فرز وضم للمشاريع بحلّة جديدة ستكون مختلفة تماماً، وبالتأكيد ستكون نتاج تسويات إقليمية ودولية ظروفها ووسائل نجاحها لم تتأمّن حتى الآن.

ويبدو أن ظروف لبنان مجمدة حالياً، لارتباطها بالعديد من المحطات. ظروف الانشغال بالحرب الأوكرانية، وتعثر مفاوضات البرنامج النووي الإيراني، والانتخابات التشريعية النصفية الأمريكية والتشريعية الإسرائيلية المبكرة، إضافة إلى تشكيلة واسعة من الأزمات الفرعية والمناسبات المتصلة، ما سيسهم في رفع منسوب تأزيم الواقع اللبناني وتأجيل البحث فيه إلى آماد لاحقة.

لكن المشكلة الحالية اليوم، لم تعد كسابق عهدها، فلبنان اليوم غارق في ظروف قاهرة جداً، ثمة تبدّل وتغيّر نوعي في تركيبته الاجتماعية والديموغرافية، وهي خواص شملت جوهر مشاكله وأزماته سابقاً، حيث كانت التركيبة دقيقة جداً، ويُعمل دائماً للحفاظ عليها ضمن شروط السلم الأهلي البارد، فيما اليوم تلاشت وانتهت، حيث اللاجئون والنازحون يشكلون عدداً موازياً لسكانه، إن لم يكن أكثر، بفعل غياب الضوابط، علاوة على تغيّر السلوك الاجتماعي والعادات والتقاليد، وحتى تبعثر الثقافات، ما يشكل صورة سوداوية لأي نظام جديد سيرتب للبنان لاحقاً. وما يزيد الوضع تعقيداً الوضع الاقتصادي المنهار كلياً، ما يرتب أوضاعاً وسلوكات اجتماعية متفلّتة أمنياً، وهي المرحلة التي تسبق الانهيار والتفجير الكبير.

يشاع حالياً في الكواليس لإدارة الفراغ الرئاسي، إعادة تعويم تشكيلة الحكومة حالياً بوزراء سياسيين ذات طابع نوعي، بحيث تتمثل جميع القوى الفاعلة في الحكومة التي يمكن أن تتسلم صلاحيات الرئاسة بعد الثلاثين من أكتوبر / تشرين الأول المقبل، وعندها ستبدو الحكومة كأنها مجلس رئاسي، تدير أنقاض دولة بانتظار ما سيقرر للإقليم لاحقاً. ربما هذه الصورة التي تركب حالياً تناسب الجميع، وهي صورة لصيغ كانت محط أنظار البعض سابقاً، ولم تسقط، أو تتلاشى حالياً، واليوم تشكل مناسبة لإحياء مثل هذه الطروحات.

يتعلق اللبنانيون اليوم بحبال الهواء بحثاً عن حل لوضع لم يمر به مجتمع في تاريخ البشرية، شعب متروك لقدره، يعيش خارج التاريخ، وأيضاً خارج جغرافيا الدولة، فهل ما يحاك حالياً يشكل بداية حل؟ يبدو أن لبنان يعيش لحظات قبل الانفجار الكبير الذي يراهن البعض عليه لجذب وقبول الحلول.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y26v2euv

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"