د. يوسف مكي
لم يكن مفاجئاً الرد العسكري الروسي على التفجير الذي استهدف الجسر الوحيد، الذي يربط شبه جزيرة القرم بالأراضي الروسية. فعملية تخريب الجسر، من وجهة نظر إدارة الرئيس بوتين، هي تجاوز للخطوط الحمر. لقد جُرح الدبّ القطبي، في كبريائه، خاصة أن عملية التخريب تلك، جاءت متزامنة مع تراجعات للقوات الروسية، عن أراض شاسعة اكتسبتها بقوة السلاح، وبالتضحيات الجسيمة في المال والرجال. ولا بد لاستعادة الكرامة المهدورة من رد الصاع صاعين، أو أكثر.
ففي يوم الاثنين من الأسبوع الماضي، أمطرت روسيا سماء المدن الأوكرانية، بنحو 75 صاروخاً، في أوسع هجمات جوية منذ بداية الحرب، وأسفرت عن خسائر جسيمة في البنية العسكرية والمدنية. وقد استهدفت تلك الضربات، مقر القيادة العسكرية وأنظمة الاتصالات والطاقة في 15 موقعاً أوكرانياً، في أوديسا وزابوريجيا وخاركيف وكييف ولوغانسك.
ولا يبدو أن حكومة زيلينسكي قد قبلت بالدرس الروسي، فقد قامت في اليوم التالي للهجوم الروسي الواسع، بقصف مدينة ستاخونوف بمنطقة لوغانسك بصاروخين، من نوع هيمارس الأمريكي. وليستمر المسلسل الجديد من القصف الجوي المتبادل والعنيف، بين الجيشين المتحاربين.
لقد جاءت الضربات الروسية انتقاماً للضربات الموجعة التي تعرضت لها، سواء في تراجع قواتها في خطوط واسعة من جبهات القتال، أو في تدمير خط الغاز الروسي المتجه لأوروبا الغربية، أو في تفجير جسر القرم، وعمليات تخريبية أخرى. لكن الأهداف المضمرة للهجوم تبقى هي الأهم في هذا الشأن.
فالحرب التي شنتها إدارة بوتين على أوكرانيا لن يكون لها معنى من غير تحقيق النصر. والحروب عادة تشن لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية، ومن غيرها تتحول إلى لعبة عبثية. والروس صرحوا مراراً وتكراراً بأن هدف هذه الحرب، ليس فقط اكتساب مناطق جديدة تعتبرها روسيا عمقاً استراتيجياً لها، وجزءاً من تاريخها وبعدها القومي، بل إنها تأتي في سياق التسريع في انبثاق نظام دولي جديد، بديلاً عن الأحادية القطبية، التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة، في مطالع التسعينات من القرن المنصرم.
إن وعي إدارة الرئيس الأمريكي، بايدن، ومعها قادة أوروبا للهدف الحقيقي للحرب، هو الذي يوضح سبب اندفاع الغرب، لتقديم كل ما من شأنه إعاقة النصر الروسي على الغريم الأوكراني. وقد بلغت الأسلحة والمساعدات التي قدمتها تلك الدول إلى أوكرانيا عشرات المليارات من الدولارات. ولذا فإن أوكرانيا في هذه الحرب تحارب بالوكالة عن الغرب، وتسهم في إعاقة انبثاق نظام عالمي جديد، يعكس حقائق القوة الراهنة.
هذا التقدير من جانبنا، لا يمكن الأخذ به بشكل مطلق، فالتماهي في الدعم الغربي لأوكرانيا، في مواجهة الدب القطبي، ليس متوازياً في النوع والكم، وليس متكافئاً في الحماسة. فأمريكا هي المعنية الأولى بالحرب، ونتائجها التي ربما تكون وبالاً على مشروع هيمنتها حال انتصار روسيا في الحرب. والأوروبيون، باتوا يدركون ذلك ويعبّرون صراحة عن امتعاضهم من السياسة الأمريكية، التي تعرّض بلدانهم لأزمات اقتصادية حادة.
ولم يعد التذمر الغربي، من السياسة الأمريكية في خانة العتب بين الأصدقاء، بل جاء في صيغة هجوم مباشر وحاد من الرئيس الفرنسي، إمانويل ماكرون، والمستشار الألماني شولتس، اللذين اتهما حكومة بايدن بخلق أزمة اقتصادية عالمية، وبالثراء الاقتصادي الأمريكي، على حساب القارة الأوروبية.
والسياسة الروسية الراهنة، تعتمد عدة خطوط عسكرية وسياسية واقتصادية. فعلى الصعيد العسكري، يتواصل القصف الروسي للمدن الأوكرانية يومياً، وبشكل متواصل، منذ بدء الهجوم الصاعق عليها، يوم الاثنين من الأسبوع المنصرم، ومن جهة أخرى، تعزز روسيا حضورها العسكري، على حدودها مع الدول الاسكندنافية، حيث أظهرت صوراً للأقمار الصناعية، زيادة في عدد القاذفات الاستراتيجية، والتي تفوق سرعة الصور من طراز توبوليف الملقبة ب«البحعة البيضاء»، والمتمركزة في قاعدة جوية بالقرب من الحدود الفنلندية والنرويجية.
وعلى الصعيد السياسي، تطور روسيا علاقاتها مع الدول التي تتخذ موقفاً متوازناً من أزمتها مع أوكرانيا. وعلى الصعيد الاقتصادي، أعلنت روسيا استبدال خط جديد عبر الأراضي التركية بالخطوط التي تزود القارة الأوربية بالغاز. يضاف إلى ذلك تواصل صادراتها للبلدان الأوروبية التي تعلن استعدادها للخروج عن بيت الطاعة الأمريكي. وقد نجحت القيادة الروسية في ذلك إلى حد كبير. فقد أعلنت 13 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، عن زيادة وارداتها من السلع الروسية، فيما خفضت الدول الأخرى من واردتها.
ويظل الهدف الأثير للرئيس الروسي بوتين، الاحتفاظ بإقليم دونباس، وتجريد أوكرانيا من قوتها العسكرية، ومنعها من الانضمام لحلف الناتو، وتحويلها إلى دولة محايدة، وتغيير معادلة توازن الرعب الدولية الراهنة.