المال الذي أسقط تراس

21:36 مساء
قراءة 3 دقائق

هارولد جيمس *
أعطت استقالة ليز تراس، صاحبة أقصر فترة رئاسة وزراء في تاريخ المملكة المتحدة، انطباعاً قوياً وواضحاً عن وضع السياسة المالية في البلاد. لكن الدرس كان أعمق من مجرد فكرة أن السياسة البريطانية يمزقها صراع ثلاثي مؤلم بين الحكومة ووزارة الخزانة وبنك إنجلترا المركزي، فالفشل الحقيقي كان في التغاضي عن المخاطر الكبرى التي وُجدت منذ فترة طويلة، منذ تأسس النظام المالي البريطاني تقريباً.

كان الخطأ ظاهرياً بإعلان الحكومة عن «الميزانية المصغرة» الكارثية، وتخفيض ضريبي غير ممول بقيمة 45 مليار جنيه إسترليني (50 مليار دولار)، أي ما يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي. واعتقد صناع القرار السياسي حينها أن ذلك سيحفز المبادرة والاستثمار، وبالتالي النمو. وكانت هناك أيضاً حزمة أكثر تكلفة لدعم مستهلكي الطاقة، والتي اعتُبرت في ذلك الوقت أكثر البرامج سخاءً في أوروبا، إذ بلغت حوالي 200 مليار جنيه إسترليني، أو 9% في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

هذه أرقام كبيرة بالطبع، لكن مستوى الدين العام في المملكة المتحدة كان أقل بكثير من مستوى الدين العام للولايات المتحدة، ناهيك عن إيطاليا أو حتى حالة اليابان الأكثر تطرفاً. ومع ذلك، لا ينبغي للنقص في النفقات والدخل الجديد، في حد ذاته، أن يحول المملكة المتحدة إلى يونان أو أرجنتين جديدتين.

لقد أسرت النظرية النقدية الحديثة، التي استخدمت نهج الميزانية العمومية لإظهار أن الدين الحكومي كان أصلاً للمواطنين، الأسواق. ولكن بعد ذلك، أدى ارتفاع التضخم، مدفوعاً بالحزم المالية الوبائية، واضطرابات سلسلة التوريد، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، إلى إلزام البنك المركزي البريطاني بتشديد السياسة النقدية، وبالتالي زيادة تكلفة التمويل الحكومي، تكلفةٌ أدت إلى إسقاط تراس.

تاريخياً، وفي فترة ما بين الحربين العالميتين، ضغطت البنوك المركزية في بريطانيا وفرنسا على الحكومات اليسارية التي كانت تدير عجزاً صغيراً نسبياً، ما أدى إلى ظهور قصة ما يسمى ب «الممولين والأزمة السياسية البريطانية» في أغسطس/آب عام 1931، والتي أطلق عليها الفرنسيون «جدار المال». والقصة المماثلة يتم تداولها اليوم بالفعل، ويمكن اختصارها ب «الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي ونصيحة المؤسسات المالية الدولية التي دمرت حكومة المحافظين». وبدأ العد التنازلي للكارثة بالنسبة لحكومة تراس، التي وعدت بإحياء النمو من خلال التحفيز المالي، عندما أعلن بنك إنجلترا أنه سينهي خطة دعم الديون الحكومية (السندات الذهبية) في 14 أكتوبر/تشرين الأول الجاري. وكان من المتوقع تماماً أن يكون هذا هو اليوم الذي يتعين على الحكومة أن تعد فيه بإعادة التفكير في موقفها المالي، وهو ما فعلته تراس من خلال إقالة مستشاريها.

أثارت محاولة المملكة المتحدة إعطاء الأولوية للإجراءات الشعبوية بلبلة في سوق السندات. وتدخل بنك إنجلترا لتجنب الكارثة، وقد عكست حكومة رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس جميع سياساتها تقريباً وتعهدت بخفض الإنفاق العام. لكنها استقالت الخميس، دون أن تتعافى الحكومة سياسياً من الاضطرابات.

وهكذا يبدو أن سقوط تراس نتج عن صدام بين ما يسميه الاقتصاديون الهيمنة المالية (وعود الإنفاق الحكومية) والهيمنة النقدية (جهود بنك إنجلترا لاستقرار الأسعار). وهذه المرة انتصرت الهيمنة النقدية، لأن رواية جديدة عن إسراف الحكومة والمسؤولية السياسية استحوذت على الأسواق المالية، لتحل محل الرواية المغمورة بالمعالجة النقدية الحديثة حول فائدة الإنفاق العام والعجز.

لكن التفكير فيما حدث لتراس من حيث تضارب السياسات المالية والنقدية يُغفل جانباً مهماً ومدهشاً من القصة، وهو ضعف جزء رئيسي من القطاع المالي في المملكة المتحدة أمام ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض أسعار السندات. فقد استفادت صناديق التقاعد، الملتزمة بالسداد وفق سياسات المزايا المحددة، من حيازاتها من الديون الحكومية من أجل السعي وراء عوائد أعلى. وإذا انخفض سعر الدين العام بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، تواجه الأموال طلبات ضمان. والآن، تواجه صناديق التقاعد في المملكة المتحدة، التي تمتلك حوالي 1.5 تريليون جنيه إسترليني في هذا النوع من المخططات، نقصاً في السندات التي يمكن بيعها بسهولة.

يُفسر تدخل بنك إنجلترا التحول الغريب في أسعار الدين الحكومي، حيث انخفضت أسعار الأوراق المالية المرتبطة بالمؤشر أو المقاومة للتضخم أكثر من تلك الخاصة بالأوراق المالية العادية، لمجرد أن صناديق التقاعد تحتفظ بالعديد من المؤشرات، فأدت التزامات المعاشات التقاعدية إلى شل خيارات السياسة.

وبهذا السياق، فإن فشل تراس يعني أن الشعبوية المالية، التي يشاركها سلفها بوريس جونسون، مستبعدة الآن في بريطانيا. لكنها أصبحت أكثر خطورة في أماكن أخرى، ولم يعد السياسيون أحراراً في إجراء رهانات كبيرة على المستقبل.

* أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، (بروجيكت سينديكيت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mryjbce3

عن الكاتب

أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

مقالات أخرى للكاتب