أزمة ديون حقيقية

22:13 مساء
قراءة 4 دقائق

نورييل روبيني *

يتجه الاقتصاد العالمي نحو التقاء غير مسبوق من الأزمات الاقتصادية والمالية والديون، في أعقاب انفجار العجز والاقتراض والروافع المالية في العقود الأخيرة. ففي القطاع الخاص، يشمل جبل الديون «الأسر المعيشية» متمثلاً في الرهون العقارية، وبطاقات الائتمان وقروض السيارات والطلاب، والقروض الشخصية، ويشمل أيضاً «الأعمال والشركات» مثل القروض المصرفية وديون السندات، والديون الخاصة، إضافة إلى «الخدمات المالية» كالتزامات المؤسسات المصرفية وغير المصرفية. 
وفي القطاع العام تشمل الديون المتراكمة سندات الحكومة المركزية والإقليمية والمحلية والالتزامات الرسمية الأخرى، فضلاً عن الديون الضمنية مثل الالتزامات غير المموّلة من أنظمة المعاشات التقاعدية بنظام الدفع أولاً بأول، وأنظمة الرعاية الصحية.
وبمجرد النظر إلى الديون الصريحة، فإن الأرقام مذهلة. فعلى الصعيد العالمي ارتفع إجمالي ديون القطاعين الخاص والعام كحصة من الناتج المحلي الإجمالي من 200% في عام 1999 إلى 350% في عام 2021. 
وتبلغ النسبة الآن 420% في الاقتصادات المتقدمة، و330% في الصين. وفي الولايات المتحدة، تبلغ النسبة 420% من الناتج المحلي الإجمالي؛ أي أعلى مما كانت عليه خلال فترة الكساد الكبير، وبعد الحرب العالمية الثانية.
بالطبع يمكن للدين أن يعزز النشاط الاقتصادي إذا استثمر المقترضون في رأس مال جديد كالآلات والمنازل، والبنية التحتية العامة، ما يُولّد عوائد أعلى من تكلفة الاقتراض، لكن الحاصل اليوم أن كثيراً من الأموال المقترضة تُنفق ببساطة على الإنفاق الاستهلاكي المستمر للفرد، وهذه بحد ذاتها وصفة للإفلاس. 
علاوة على ذلك، يمكن أن تكون الاستثمارات في «رأس المال» محفوفة بالمخاطر أيضاً، سواء كان المقترض أسرة تشتري منزلاً بسعر مبالغ فيه، أم شركة تسعى إلى التوسع بسرعة كبيرة بغض النظر عن العوائد، أم حكومة تنفق الأموال على مشاريع بنى تحتية باهظة وغير مجدية.
استمر هذا الاقتراض المفرط لعقود ولأسباب مختلفة، حيث سمحت ديمقراطية التمويل للأسر التي تعاني ضائقة في الدخل، بتمويل استهلاكها بالديون. ودأبت حكومات يمين الوسط على خفض الضرائب دون خفض الإنفاق. 
في المقابل أنفقت حكومات يسار الوسط بسخاء على البرامج الاجتماعية التي لم يتم تمويلها بالكامل من خلال ضرائب أعلى. كما أدت السياسات الضريبية التي تُفضل الدين على الأسهم، والمدعومة من سياسات البنوك المركزية النقدية والائتمانية شديدة التساهل، إلى زيادة الاقتراض في القطاعين العام والخاص.
وأبقت سنوات من التيسير الكمي والائتماني تكاليف الاقتراض قريبة من الصفر، وفي بعض الحالات كانت سلبية (كما هو الحال في أوروبا واليابان حتى وقت قريب). وبحلول عام 2020، بلغ الدين العام المكافئ للدولار ذي العائد السلبي 17 تريليون دولار. 
وحتى في بعض بلدان الشمال الأوروبي، كانت معدلات الفائدة الاسمية للرهون العقارية سلبية.
لقد أدى انفجار نسب الديون غير المستدامة إلى تحوّل الكثير من المقترضين والأسر والشركات والبنوك، وبنوك الظل، والحكومات وحتى البلدان بأكملها، إلى «زومبيات» مُعسّرة يتم دعمها من خلال معدلات فائدة منخفضة، ما جعل تكاليف خدمة الديون تحت السيطرة. وخلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأزمة كورونا 2020، تم إنقاذ العديد من الوكلاء المعسرين الذين كانوا سيُفلسون من خلال سياسات أسعار الفائدة الصفرية أو السلبية، والتيسير الكمي، وعمليات الإنقاذ المالية الكاملة إلى أن أسهم التضخم الآن، الذي تغذّيه نفس السياسات المالية والنقدية والائتمانية الفضفاضة للغاية، في إنهاء الوضع السابق.
ومع اضطرار البنوك المركزية إلى زيادة أسعار الفائدة في محاولة لاستعادة استقرار الأسعار، شهدت هذه «الزومبيات» زيادات حادة في تكاليف خدمة الديون. وبالنسبة للكثيرين، مثل هذا ضربة ثلاثية. فإلى جانب الديون، أدى التضخم أيضاً إلى تآكل دخل الأسرة الحقيقي، وتقليل قيمة أصولها، مثل المنازل والأسهم. وينطبق الشيء نفسه على الشركات والمؤسسات المالية والحكومات الهشة ذات القيمة الزائدة، فهي تواجه كذلك، ارتفاعاً حاداً في تكاليف الاقتراض، وانخفاضاً في الدخل والإيرادات، مع انخفاض قيم الأصول كاملة في نفس الوقت.
والأسوأ من ذلك أن هذه التطورات تتزامن مع عودة التضخم المصحوب بالركود (تضخم مرتفع ونمو ضعيف). 
وهنا تجدر الإشارة إلى أن آخر مرة شهدت فيها الاقتصادات المتقدّمة مثل هذه الظروف كانت في سبعينات القرن الماضي، لكن على الأقل في ذلك الوقت، كانت نسب الدين منخفضة للغاية، بينما نواجه اليوم، أسوأ جوانب السبعينات (صدمات التضخم المصحوب بالركود)، مع أسوأ جوانب الأزمة المالية العالمية 2008 مع فارق مهم، هو أننا ببساطة لا يمكننا هذه المرة، خفض أسعار الفائدة لتحفيز الطلب.
في هذا السياق يتعرض الاقتصاد العالمي لضربات موجعة بسبب صدمات العرض السلبية المستمرة على المدى القصير والمتوسط، والتي تقلل من النمو وتزيد من الأسعار وتكاليف الإنتاج. وتشمل: الاضطرابات التي سببها الوباء في سلاسل التوريد العالمية، وتأثير الحرب الروسية في أوكرانيا في أسعار السلع، وسياسة الصين المتشددة والمستمرة بخصوص عودة تفشي كورونا، فضلاً عن عشرات الصدمات الأخرى متوسطة المدى، من تغير المناخ إلى التطورات الجيوسياسية، والتي ستخلق ضغوطاً تضخمية إضافية.
من المؤكد أن الاقتصادات المتقدمة التي تقترض بعملتها الخاصة، يمكنها استخدام نوبة تضخم غير متوقعة لخفض القيمة الحقيقية لبعض الديون الاسمية طويلة الأجل ذات السعر الثابت. ومع عدم رغبة الحكومات في زيادة الضرائب أو خفض الإنفاق لتقليل عجزها، سيُنظر مرة أخرى إلى تسييل عجز البنك المركزي على أنه الطريق الأقل مقاومة، لكن لا يمكنك خداع كل الناس طوال الوقت. 
فبمجرد خروج جنّي التضخم من القمقم، وهو ما سيحدث عندما تنسحب البنوك المركزية من المعركة في مواجهة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يلوح في الأفق، سترتفع تكاليف الاقتراض الاسمية والحقيقية. وبالتالي يمكن تأجيل أزمة الديون المصحوبة بالركود التضخمي بدلاً من تفاديها.
* أستاذ الاقتصاد في كلية ستيرن للأعمال في جامعة نيويورك، الرئيس التنفيذي لشركة «روبيني ماكرو أسوشيتس» 
(بروجيكت سينديكيت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8knam5

عن الكاتب

* أستاذ الاقتصاد في كلية ستيرن للأعمال في جامعة نيويورك، الرئيس التنفيذي لشركة «روبيني ماكرو أسوشيتس»
(بروجيكت سينديكيت)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"