عادي
فيلم يأخذك إلى مناطق بعيدة في عمق الروح

«فرح».. نفق مظلم نهايته نور

23:07 مساء
قراءة 5 دقائق
1

مارلين سلوم
يهرب الجمهور عادة من مشاهدة الأفلام المثقلة بالأزمات النفسية والشخصيات المعقدة، على الرغم من إقباله على أفلام الجريمة والعنف والرعب بلا تردد ولا قلق، لكن بعض الأفلام يفرض نفسه ويدفعك لمتابعة أحداثه مهما تعقّدت، وتتسمر في مكانك من أجل معرفة مصير الشخصيات والختام الذي تتمناه طوال الوقت مبشراً مبهجاً. وهذه النوعية إن توفرت تكون هي شهادة النجاح والتقدير التي يتسلمها صناع الفيلم وفريق العمل مباشرة، فور انتهاء العرض، ومعرفة ردود فعل الجمهور والنقاد.

الفيلم اللبناني «فرح» المعروض حالياً على «نتفليكس» وفي بعض دور السينما، من هذه النوعية المثقلة بهموم النفس وأوجاعها، ولكنه يأخذك إلى مناطق بعيدة في عمق الروح ويجعلك تتساءل عن مصير الأبطال حتى تجد نفسك تصفق له في النهاية، وينجح في ميزان النقد لأسباب عدة.

الصورة
1

لا يمكنك أن تتخيل الأحداث وطبيعة الفيلم من عنوانه، فهذا العمل يبشر ب«فرح»، بينما ينطلق منذ المشهد الأول باتجاه التشوش الفكري والأزمات النفسية. وحين نقول أزمات نفسية يخيّل للمرء أنه سيواجه عالماً مليئاً بالتعقيدات والسوداوية والاكتئاب، وهو فعلاً ما تنبى عليه أحداث «فرح»، لكنه بفضل الكتابة والأداء والإخراج لا يحمل هذا الاكتئاب إليك ولا يدفعك نحو الحزن والتشاؤم والندم على المشاهدة.

فيلم يحمل التناقضات، عنوانه فرح وأحداثه لا تحكي عن أي فرح، مضمونه هموم وأزمات نفسية وحزن وجريمة، بينما مرآته تعكس نوراً ما فترشدك إلى العلاج المريح للنفس والسكينة والتصالح مع الذات. ومن الملحوظات أيضاً أن فرح التي يحمل الفيلم اسمها ليست البطلة الأولى؛ بل ابنتها لينا التي تؤديها بتميز شديد ستيفاني عطاالله والتي قدمت أداء يؤكد أنها من الممثلات الشابات الموهوبات جداً، ولا بد أن تجد الفرص المناسبة للبطولة المطلقة في أفلام ومسلسلات قوية، لكن اختيار اسم فرح عنواناً للعمل ككل، فإنما للدلالة على أنها هي أساس الأزمة ومصدرها، النواة الأساسية لكل ما تعيشه لينا ووالدها نبيل، وكل الشخصيات الأخرى المتصلة بهذا الثلاثي.

المخرجة اللبنانية حسيبة فريحة وزوجها الإنجليزي كينتون أوكسلي، توليا عملية الإخراج، بينما تكفلت حسيبة وحدها بالقصة والنص، كما شاركت في البطولة مؤدية دور فرح ناصر. جريئة في اختيارها موضوعاً ليس من السهل أن يقبل على مشاهدته الجمهور، وجريئة في تعمقها في المعلومات الطبية عن الأمراض النفسية وكيفية علاجها، ما قد يشكل خطراً على الكاتبة والعمل ككل، إن لم تكن هي على دراية تامة بما تقول، وواثقة بهذه المعلومات، وإلا واجهت الفشل ودخلت في مشاكل مع أطباء ومدققين ومعالجين.

 

منذ اللقطة الأولى ندخل مباشرة في عنوان المعضلة، حيث تتحدث البطلة لينا (بالصوت) عن الكوابيس التي تلازم المرء، فتجعله تائهاً بين الحقيقة والخيال، وعن خوفه من التحدث عنها حتى لا يراها في يوم من الأيام حقيقية أمامه. «التتر» يعتمد الرسوم والرمزية، حيث يتكرر وجود حبة دواء وبقعة دماء. في قاعة دراسية نرى الشابة لينا شاردة يحاول إنقاذها زميلها سامي (نادر عبد الحي) الجالس إلى جانبها، حين يطلب منها الدكتور المحاضر أن تشرح الدرس. لينا تعاني قلقاً مستمراً وتحلم بكابوس لا يفارقها أبداً، وتعجز عن البوح بفشلها في دراسة الطب في أمريكا وعن الكابوس الذي يطاردها لوالدها نبيل (مجدي مشموشي) الذي اختار لها التخصص والجامعة والبلد دون أن يمنحها حق الاعتراض والاختيار.

إتقان الدور

الفتاة جميلة لكنها تمشي منحنية الظهر والكتفين، وهو ليس عيباً في ستيفاني عطاالله؛ بل إتقان شديد للدور، فهي تستخدم لغة الجسد والصراخ الهستيري والرعشة والبلادة في الخطوات أحياناً كالإنسان التائه، إلى جانب لغة العيون وملامح الوجه لتجسيد دور الفتاة المتعبة من كوابيسها، والتي تعاني حالة نفسية لا تفهم مصدرها، خصوصاً حين تتجه إلى طبيبة نفسية في أمريكا فتسألها عن والدها ووالدتها وحياتها منذ طفولتها، وتنصحها بالبحث عن ماضي أمها المتوفاة، حتى تتمكن من مواصلة العلاج.

تتناول لينا حبة دواء تسبب لها تهيؤات وهلاوس تجعلها عنيفة وتشكل خطراً على من حولها، فينقذها زميلها سامي ويعيدها والدها إلى لبنان. مع تطور الأحداث وتطور أزمة لينا، تصبح فتاة محنية الظهر كدلالة واضحة على أن بدنها مرهق ومثقل بالهموم التي تحملها، وكأنها تضع أوزاناً ثقيلة فوق كتفيها.

امرأة تبكي.. نحيب.. خوف وصراخ، ثم والد لينا يسأل «ماذا فعلت؟»، كل هذه الأصوات تسمعها الفتاة خلال نومها ولا ترى سوى مياه بلون الدم وكأن أحداً يسبح فيها وهي تموج، ثم تستيقظ مرعوبة.. يلجأ نبيل إلى الطبيب النفسي معلوف، صديق العائلة منذ أكثر من عشرين عاماً، الذي يعطيها مهدّئاً للأعصاب اسمه «زابا» أو «كزابا» والذي يتداوله الناس باسم «جوي»، وتعلم لينا لاحقاً أن والدها يعمل مع شركة «فار مينا» صاحبة «زابا» المتهمة بتدمير حياة الناس؛ لأنها تؤدي بهم إلى الانتحار.

تمشي المؤلفة حسيبة فريحة في 3 خطوط متوازية، فهي تتطرق للفساد في شركات الأدوية التي تؤذي الناس ولا تعالجهم، تجعلهم فئران تجارب ولا يستوقفها حصول وفيات وتدمير حياة إنسان.. ومن جهة ثانية تتناول الأزمات النفسية التي تتسبب فيها صدمات يواجهها الإنسان في حياته، من منطلق أن الصدمة (تروما) تنتقل من جيل إلى جيل، وأن اللاوعي لا يفرق بين الحقيقة والخيال، لتصل إلى استنتاج أن الإنسان هو الذي ينقذ نفسه بنفسه، والعلاج يأتي بقرار من المريض. أما الخط الثالث فهو العلاقة بين الأبناء والآباء، وعواقب إخفاء الحقائق.

تكشف الحقائق

تقرر البطلة البحث عن الحقيقة بمساعدة صحفي شاب (يوسف بولس)، يظهر فجأة لا نعرف كيف ومن أين ويختفي فجأة، لأسباب لن نشرحها حتى لا نحرق الأحداث حقيقة والدتها وحقيقة دواء الاكتئاب، فتكتشف الكثير من الحقائق وتتوالى الصدمات فتترك أثرها في نفسية الفتاة، إلى أن تصل إلى حافة الهاوية قبل أن تنهض من جديد بمساعدة الطبيبة النفسية الدكتورة سلام (بياريت القطريب)، وهنا نشهد مواجهة معبرة ومهمة بين الطبيبين معلوف التقليدي المتمسك بفكرة أن الشفاء لا يمكن أن يكون إلا من خلال الدواء، وسلام المصرة على أن العلاج يأتي من مواجهة الحقائق والحوار مع الذات، والاسترخاء في حضن الطبيعة.

كل الممثلين مناسبين لأدوارهم، كما قلنا ستيفاني عطاالله كتلة من المشاعر، ومجدي مشموشي يجسد باقتدار، صورة الأب اللامبالي العنيد الغامض المتحكّم في قرار ومصير ابنته في البداية، ثم يتحول إلى أب متفهم حنون وضحية لما حصل في حياته. ومن المتميزين أيضاً الشاب يوسف بولس، الذي يجسد شخصية الصحفي، وعلى الرغم من حضوره القليل فإنه ترك أثراً في العمل. «فرح» دراما نفسية تتخللها مفاجآت لا يتوقعها الجمهور، لكنها تمنحه مساحة من التفاؤل والأمل بوجود علاج لأصعب الأزمات.

جوائز كثيرة

حصد فيلم «فرح» جوائز كثيرة في مهرجانات سينمائية مختلفة، من بينها جائزة خاصة بمناسبة الذكرى العاشرة لمهرجان «تشيلسي السينمائي» في الولايات المتحدة الأمريكية، وجائزة أفضل عمل أول في مهرجان «الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط»، وجائزة محمود عبدالعزيز لأفضل إخراج فني لموسى بيضون ونزار نصار في نفس المهرجان، وجائزة أفضل فيلم روائي باختيار الجمهور ضمن فعاليات «مهرجان الفيلم اللبناني» في كندا، وكان قد شهد العرض العالمي الأول له في مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/265u2u58

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"