تعدّد مرجعيات القيم والحاجة للحسم

00:31 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو
موضوع تشوّه، أو غياب، أو التلاعب بالقيم الإنسانية والأخلاقية في كل أنحاء العالم، أصبح حديث الساعة. فالدول الكبرى المهيمنة تتلاعب بكل القيم من أجل خدمة مصالحها ونفوذها في الحقل السياسي، والشركات والبنوك العولمية الكبرى تستعمل بانتهازية، كل القيم من أجل كسب تنافساتها المجنونة في الحقلين، التجاري والمالي، ووسائل الإعلام تساهم بشكل كبير في نشر تلك القيم المُتلاعب بها، وتبرير تبنّيها لمصلحة الأقوياء والأغنياء. ومعظم المؤسسات الثقافية والتربوية والفنية التي من المفروض أن تدافع عن القيم، تقف عاجزة بعد أن أصبحت هي الأخرى مُشتراة، أو فاسدة.

ولما كناّ في عصر عولمي بامتياز، وأصبح العالم عبارة عن قرية واحدة بتأثيرات تفاعلية متبادلة، فإنه من الضروري أن نطرح، نحن العرب، على أنفسنا هذا السؤال: ما موقفنا مما يجري؟ وما السبيل الذي يصلح لنا ولمجتمعاتنا؟

والجواب القاطع هو أننا ما لم نحسم موضوع مرجعية القيم التي نريد تبنّيها لحياتنا العربية، فإننا سنظل حبيسي مرجعيات الغير، وما تقود إليه من قيم قد لا نرضاها لأنفسنا، بل ولا للعالم الذي نحن جزء منه. وبالطبع لما كانت الحضارة الغربية هي المهيمنة على عالمنا، فإن المرجعيات، الفلسفية والثقافية والسلوكية الغربية، وعلى الأخص الأوروبية والأمريكية الشمالية، هي السائدة حالياً، بما فيها سيادتها في وطننا العربي، وإصرار البعض على تفضيلها على مرجعياتنا العربية الذاتية.

دعنا نركز، مصالحة تربية وثقافة شاباتنا وشبابنا العرب، بعضاً من الرفض المطلوب الواضح الصريح لعدد محدود من مرجعيات غربية شهيرة. الأولى هي المرجعية المكيافيلية التي تدعو إلى الفصل بين الأخلاق والسياسة تحت مبدأ وشعار «الغاية تبرر الواسطة»، وما يستطيع أن يقود إليه هذا الشعار من خداع وفساد وتلاعب بعواطف البشر واضح أمام أعيننا في كل مكان: تراجع مرعب في الأنظمة الديمقراطية، وفساد متنام في أنظمة الحكم، ورجوع إلى عهود الاستعمار، إلخ.

والثانية، هي المرجعية «الوضعية العقلانية» التي جعلت من العلوم التطبيقية الحسية، والعلوم الإجتماعية والإنسانية، والعادات والأعراف هي أساس التقدم الإنساني، ومقلّلة من أهمية وحضور الميتافيزيقيا الإيمانية، وأصوات الضمير الإنساني، ومشاعر المثل العليا التي تسمو بروح الإنسان، لتنقلب القيم والسلوكات الأخلاقية ظواهر اجتماعية ومنهجيات عقلية قابلة للأخذ، أو الرفض، أو التعديل، حسب مقتضيات الظروف النفعية والموديلات المسعّرة للغرائز، حتى ولو كانت هابطة.

وقد تفرعت عن المرجعيتين السابقتين مرجعيات فرعية من مثل شعارات «اللاعقلانية» النيتشية الشهيرة، «والنيولبرالية» الرأسمالية التي يعيشها العالم حالياً، و«الفاشية – النازية» التي ما إن تختفي في مجتمع حتى تظهر وتنمو في مجتمع آخر، و«النفسية» الفرويدية المختلف حولها.

هل حقاً أن مرجعيات القيم، وممارستها، وتطويرها نحو الأعلى والأسمى، والنضال من أجل جعلها تعتبر جزءاً من كل أيديولوجية عربية ومن كل استراتيجية تنموية، والرجوع إليها لمواجهة ما تواجهه البشرية ومجتمعاتنا من أحزان ومآس وأمراض اجتماعية... هل حقاً أن كل ذلك يجب أن ينتظر حتى تستفيق الحضارة الغربية وتراجع تاريخها المملوء بالاستعمار والاستغلال والحروب، وحاضرها المملوء بالظلم والعربدة، والإصرار على الهيمنة على كل العالم، وعلى مصير العالم، وحتى تقبل أن تتعايش مع الحضارات الأخرى؟

هذا هو السؤال المطروح بقوة في الدوائر الفكرية الغربية، والذي يجب أن نعود ونهيئ شبابنا وشاباتنا على طرحه، من أجل إعداد أنفسهم وشعوبهم ومجتمعاتهم للانتقال من حالة التقليد الأعمى والإيمان غير المتزن بتلك المرجعيات الأخلاقية الغربية، إلى بناء مرجعياتنا الذاتية التي بالطبع قد تستفيد من مرجعيات الآخرين، سلباً وإيجاباً، ولكن تضيف إلى ذلك إبداعات عوالمها الدينية الروحية، والتاريخية، والضميرية، والنفسية، والمساهمة مع الغير في صعود الإنسانية إلى الأسمى والأفضل والأكثر جمالاً في عملية تعمير الأرض وسلام عيش ساكنيها.. هذا ما سنحاول إبرازه لشاباتنا وشبابنا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/56sznxae

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"