عملة الجنوب الأمريكي

01:03 صباحا
قراءة 3 دقائق
بينما تتركز أنظار العالم على الصراع بين الشرق والغرب حالياً، تشهد أمريكا اللاتينية تطورات في غاية الأهمية. فبسبب الحرب في أوكرانيا، التي تحظى بالاهتمام الإعلامي العالمي، وما يحيط بها من صراع بين الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين من ناحية وروسيا من ناحية أخرى لا تحظى أمريكا اللاتينية وما يحدث فيها من تغيرات بالقدر الكافي من التغطية الإعلامية.
كما أن الوضع الاقتصادي العالمي يجعل الصين في بؤرة الاهتمام، خاصة في ظل حملة أمريكية غربية على بكين في سياق استراتيجية مواجهة صعود روسيا والصين التي تعتمدها الإدارة الأمريكية. لكن على الجهة الأخرى من العالم، وفيما يسمى «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة تحدث تغيرات تعزز القول إن عالماً مختلفاً يتشكل لا يقوم على أساس قطب واحد في واشنطن يدور في فلكه «تحالف غربي واسع».
أفرزت أكثر من انتخابات عامة مؤخراً في دول أمريكا وصول رؤساء ذوي توجهات يسارية، أو على الأقل غير يمينية لا تولي وجهها شطر واشنطن. وتشهد العاصمة الأرجنتينية بيونس آيريس عودة البرازيل إلى تجمع أمريكا اللاتينية والكاريبي الذي ضم 33 دولة بحضور الرئيس البرازيلي الجديد لولا دا سيلفا. وكان الرئيس البرازيلي السابق جاير بولسونارو انسحب من ذلك التجمع الإقليمي سيراً على نهجه المتسق مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
لكن التطور الأهم من بيونس آيريس هو إعلان البرازيل والأرجنتين عن عملة مشتركة لحسم التعاملات بين البلدين بعيداً عن الحاجة إلى استخدام الدولار الأمريكي. والاسم المقترح للعملة هو «سور» وتعني بالبرتغالية: الجنوب. ولا يخلو الاسم من دلالة تذكرنا بنظرية «الشمال والجنوب» للمفكر الاقتصادي الكبير الراحل سمير أمين صاحب فكرة التقسيم الأخرى غير «الشرق والغرب».
ستكون العملة مشتركة في البداية، أي ليست موحدة، بمعنى أن البلدين سيحتفظان بعملتهما الوطنية البيزو والريال. وبقية دول أمريكا اللاتينية مدعوة إلى الانضمام للعملة المشتركة في إطار تكامل اقتصادي أوسع يتم فيه حسم التعاملات بينها بالعملات الوطنية على أساس عملة الجنوب المشتركة دون الحاجة إلى الدولارات الأمريكية.
في البداية سيفيد ذلك بالطبع الأرجنتين التي تعاني اقتصادياً منذ إعلان إفلاسها في 2020 مع تخلفها عن سداد ما عليها من ديون خاصة لصندوق النقد الدولي الذي تبلغ ديونها له أربعين مليار دولار نتيجة قرض إنقاذ قدمه الصندوق لبيونس آيريس في 2018. وبما أن حجم التجارة بين الأرجنتين والبرازيل وصل العام الماضي إلى ثلاثين مليار دولار، فمع العملة المشتركة لن تضطر بيونس آيريس لاستنزاف احتياطياتها من الدولار لتمويل وارداتها من البرازيل.
لكن أهمية العملة المشتركة، وهي على طريقها لأن تصبح عملة موحدة، أنها تعني خطوة أولى كبيرة على طريق «فك الارتباط» بين أمريكا اللاتينية (الجنوب) والولايات المتحدة وكندا (الشمال). وحتى إذا اختارت المكسيك – المرتبطة اقتصادياً أكثر بأمريكا – أن تبقى خارج العملة المشتركة (كما فعلت بريطانيا وقت عضويتها في الاتحاد الأوروبي واختيارها البقاء خارج آلية العملة الأوروبية في بدايتها)، فإن عملة الجنوب تظل تمثل تحدياً هائلاً لسيطرة الدولار الأمريكي على النظام المالي العالمي منذ سبعينات القرن الماضي.
وإذا كانت أوروبا احتاجت إلى نحو ثلاثة عقود للوصول إلى اليورو، فإن وصول أمريكا اللاتينية لعملة موحدة لن يستغرق سنوات طويلة. وفي تلك الحالة ستكون عملة الجنوب ثاني أكبر عملة لتكتل اقتصادي بعد أوروبا؛ إذ تمثل اقتصادات المنطقة نحو 5 في المئة من الاقتصاد العالمي. صحيح أن دول منطقة اليورو تمثل نحو 14 في المئة من الاقتصاد العالمي، لكن التكتلات الأخرى التي تستخدم عملة مشتركة في التسويات مثل بعض دول إفريقيا تأتي في الترتيب بعد أمريكا اللاتينية بمسافة.
ما يزيد من أهمية الخطوة أنها تأتي في وقت بدأت فيه قوى اقتصادية كبيرة التخلي عن التعامل في علاقاتها مع الخارج بالدولار الأمريكي لأسباب مختلفة. فروسيا، ونتيجة حرب أوكرانيا والحصار الغربي المفروض على موسكو، بدأت بالفعل في التعامل بالعملة المحلية (الروبل)، مع عدة دول منها دول عربية. ويتم حسم التعاملات التجارية والاقتصادية بين تلك الدول وروسيا على أساس سعر صرف عملاتها الوطنية مقابل الروبل.
وتتجه الصين أيضاً إلى ترتيبات بين شركائها التجاريين للتعامل باليوان مقابل عملاتها الوطنية، ربما أيضاً تحسباً لتشديد أمريكا والغرب أي عقوبات على الصين. وكل ذلك يهدد بجدية سطوة الدولار الأمريكي التي ربما تكون بدأت طريق النهاية تماماً.
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4yf49u7s

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"