رقائق البطاطس أم الكمبيوتر؟

22:07 مساء
قراءة 4 دقائق

إدواردو كامبانيلا *

انخفضت حصة الولايات المتحدة من تصنيع أشباه الموصلات إلى 12 % فقط من 37 % في عام 1990، وآسيا تمثل أكثر من 70 % من الإنتاج
يُحكى أنه في أوائل التسعينات من القرن الماضي، دار نقاش طريف بين أحد كبار المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض والرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش حول الفرق بين رقائق البطاطس ورقائق الكمبيوتر، وخلُصا إلى أن الاختلاف بينهما هو كالاختلاف بين ال 100 دولار في حوزة شخص واحد، وال 100 دولار مع مجموعة أشخاص، تبقى نفسها «مئة دولار».
في ذلك الوقت، كانت الشركات اليابانية تزاحم منافساتها الأمريكية للدفع بها خارج سوق رقائق الذاكرة، لكن نخب السوق الحرة في واشنطن عارضت بشدة أي شكل من أشكال «تسييس» الصناعية لحماية صناعة أشباه الموصلات محلياً. وجادلوا أنه إذا تمكنت الشركات الأجنبية من إنتاج رقائق بسعر أقل، فإن الأمريكيين سيوفرون التكاليف ويوجهون إنفاقهم نحو قطاعات أخرى.
شعر صانعو الرقائق في وادي السيليكون بالقلق حينها لأسباب مفهومة، لكنهم كانوا في المقابل، القطاع الوحيد ربما الذي يعاني المنافسة اليابانية، ولم تكن الحكومة الفيدرالية قادرة على توفير الحماية لهم جميعاً، ولا يمكن أن تخاطر بالتقدم السياسي المنجز آنذاك بين البلدين لإنقاذ البعض دون الآخر.
في السنوات التي تلت ذلك، تطور هيكل وتكوين الاقتصاد الأمريكي وفقاً للمعطيات السابقة، وانخفضت حصة الولايات المتحدة العالمية من تصنيع أشباه الموصلات من 37% في عام 1990 إلى 12% فقط اليوم، وباتت قارة آسيا تمثل الآن أكثر من 70% من الإنتاج، وخصوصاً في تايوان وكوريا الجنوبية، حيث الأنواع الأكثر تقدماً. وانتظرت الولايات المتحدة، وبقية العالم، حتى عام 2020، حين انتشرت جائحة كورونا، لتدرك أن رقائق الكمبيوتر تختلف تماماً عن رقائق البطاطس!
في موازاة ذلك، ونظراً لاستخدام أشباه الموصلات في مجموعة واسعة من السلع، من أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية وآلات صنع القهوة إلى الألعاب والسيارات وأنظمة الأسلحة، كلف نقص الرقائق العالمي لعام 2021 الاقتصاد الأمريكي 240 مليار دولار (حوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي)، وتضررت صناعة السيارات العالمية، التي هبط إنتاجها 7.7 مليون سيارة عن المعدلات الطبيعية، بشدة، كما تكبدت قطاعات الرعاية الصحية والدفاع والفضاء والطاقة جميعاً خسائر فادحة.
ومع ازدياد حالات توقف الإنتاج أو تراكم المخزونات، ساعد نقص الرقائق في إطلاق العنان للضغوط التضخمية التي تسعى البنوك المركزية جاهدة لقمعها. وكجزء من استجابة سياسية أوسع، نفذت أوروبا والولايات المتحدة تدابير وقائية لتعزيز قدرات الإنتاج المحلية. ومنها قانون الرقائق الأوروبية، الذي تم الإعلان عنه في فبراير/شباط من العام الماضي، والذي يهدف إلى تشغيل استثمارات عامة وخاصة بمليارات اليورو لمنع حدوث اضطرابات مستقبلية في سلسلة التوريد.
وبالمثل، يعد «قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم 2022» الذي وقعه الرئيس الأمريكي جو بايدن في أغسطس/آب من العام الماضي، محفزاً مهماً لإنتاج أشباه الموصلات وتعزيز نهضة التصنيع المحلية. ومع تطور القطاع، أصبح واحداً من أهم القضايا الجيوسياسية والاقتصادية في عصرنا. لذلك، عمدت الولايات المتحدة إلى تدعيم صناعة أشباه الموصلات في تنافسها الاستراتيجي مع الصين، وفرضت ضوابط تصدير شاملة لمنع الشركات الصينية من الوصول إلى الرقائق ومعداتها الأكثر تقدماً.
لا شك في أن الرقائق تعتبر اللبنات الأساسية لتقنيات الذكاء الاصطناعي واتصالات «5 جي» وإنترنت الأشياء وأجهزة الكمبيوتر الكمومية وغيرها من التقنيات. وتماشياً مع قانون «مور»، يتضاعف عدد الترانزستورات الموجودة على رقاقة واحدة كل عامين تقريباً منذ ستينات القرن الماضي، مما أدى إلى زيادة قدرها «تريليون» ضعف في قوة الحوسبة. ولمقاربة الأمور، يتمتع الهاتف الذكي الحديث بقدرة معالجة تزيد بحوالي 100 ألف مرة عن الكمبيوتر المستخدم في مشروع أبولو الفضائي سنة 1968. وعلى الرغم من أن جزءاً من هذه القصة عالمي بطبيعته، إلا أن هذا التقدم غير العادي لم يكن ممكناً بدون رواد الأعمال أصحاب الرؤية الذين جعلوا وادي السيليكون على ما هو عليه اليوم.
في كتابها «وادي السيليكون وإعادة صنع أمريكا»، أحد أفضل الكتب التي تتحدث عن تاريخ وادي السيليكون، وعن التفاصيل الحقيقية للأشخاص الذين أسسوه وشكلوا بدايات عمالقة التقنية في أمريكا، روت المؤرخة مارغريت أومارا من جامعة واشنطن، حكاية الأساطير المؤسسين والعباقرة المنفردين الذين غيروا وجه العالم من مرائب منزلهم. وقالت: «وادي السيليكون ليس قصة حكومية كبيرة ولا قصة سوق حرة، انه الاثنين معاً»، مشيرة إلى أن المنطقة لم تكن لتوجد دون قادتها، ولم تكن لتحقق الكثير بدون البحث والابتكار الممول من القطاع العام الذي أرسل البشر إلى القمر وأدى إلى ظهور الإنترنت.
اليوم، وعلى عكس الثمانينات عندما أعادت المنافسة الاقتصادية مع اليابان تشكيل صناعة أشباه الموصلات، فإن المحرك الرئيسي للتغيير في الوقت الحاضر هو الصراع الجيوسياسي، حيث تتنافس الدول للوصول إلى الرقائق الأكثر تقدماً.
ولكي يحافظ وادي السيليكون على تفوقه، فإن البقاء في صدارة منحنى الابتكار لن يكون كافياً. إذ تحتاج المنطقة إلى تعزيز شراكتها مع الحكومة الفيدرالية، وإعادة التركيز على إنتاج السلع المادية، بدلاً من مجرد الخدمات الرقمية، بالإضافة إلى تحديد المصادر المحتملة للأزمات المستقبلية حتى يصبح وادي السيليكون قادراً على التكيف مع البيئة الجيوسياسية الجديدة التي تفرضها الظروف المفاجئة.
* زميل في مركز «مُصفر رحماني» للأعمال والحكومة في كلية هارفارد كينيدي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3x2vwb4d

عن الكاتب

زميل في مركز «مُصفر رحماني» للأعمال والحكومة في كلية هارفارد كينيدي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"