العدالة إذ تحكمها مرجعيتان

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو
لاحظنا أنه في كل مرة تواجه مجتمعات الحضارة الغربية، أو غيرها من الحضارات الأخرى، مشكلة حياتية تهدد الأفراد أو المجتمعات، فانهم يعودون إلى مراجع قيمهم الدينية من قبل البعض، أو الفكرية، أو العلمية، أو التجارب التاريخية من قبل البعض الآخر. ثم يعرض البعض الأمر كله على مرجعيتهم الحديثة، العقلانية، ليصلوا إلى حلول معقولة لتلك المشاكل.
نحن، عرب اليوم، نحتاج أيضاً إلى أن نفتش عن، ونعود إلى، مجموعة من المرجعيات القيمية، التاريخية منها، والثقافية والعلمية وغيرها، شريطة أنها حصيلة جهود ذاتية، مضافة إليها حصيلة تفاعل ندّي انتقائي مع الآخرين، من أجل الخروج من فترات التيه والتخبط والتقليد الأعمى والهامشية التاريخية التي عشناها عبر القرنين الماضيين، على الأخص.
لا مشكلة إطلاقاً مع الأخذ بشعارات حداثية، من مثل القومية أو الديمقراطية أو الليبرالية الرأسمالية أو الاشتراكية، أو غيرها، طالما أنها تقوم في جزء من أسسها وممارساتها على تعايش وتفاعل مع تلك المرجعيات القيمية الذاتية التي بنيناها. إذ عند ذاك فقط، سنخرج من دوامة الاختلافات والصراعات والمماحكات في كل مرة نتعرف إلى شعارات أفكار أو تجارب تأتي لنا من الآخرين. إذ عند ذاك أيضاً لن نظل ندور في دوامة الأصالة والمعاصرة، أو السلفية والحداثة، أو غيرهما من الثنائيات المتضادة، عندما ندرك أن تعايش الاثنتين هو أمر تقرره إرادتنا وطرق تعاملنا مع أسس وتطبيقات ونوع ذاك التعايش.
نقول ذلك بسبب الجنون الذي وصلت إليه حضارة العصر الغربية، (وعلى الأخص الأمريكية) المهيمنة، وإمكانية أن تقود العالم، من خلال ممارسات إيديولوجية النيولبرالية الرأسمالية العولمية، إلى الدمار الشامل، أو إلى أزمات متكررة لا تنتهي الواحدة منها حتى تتبعها أخرى، أقسى وأشد. خروج الحضارات الأخرى من تحت عباءة تلك الحضارة المهيمنة أصبح من ضرورات العصر، بعد أن عانى أصحاب تلك الحضارات ويلات حربين عالميتين، وحروباً إقليمية مفتعلة لا تنتهي، وأزمات مالية إفقارية لا تتوقف، ولا يشبع المستفيدون منها.
لنوضح الأمر من خلال التعامل مع إحدى القيم الكبرى: قيمة العدالة، التي كثرت الكتب والأحاديث والمؤتمرات التي تناقش أمرها منذ عشرات السنين. لنقارن النظرتين التاليتين إليها: نظرة الحضارة الغربية المهيمنة، ونظرة إحدى مرجعياتنا، ونقصد بها النظرة التشريعية القرآنية كأحد المراجع الثقافية الكبرى لكل العرب، وليس للمسلمين منهم فقط.
في النظرة القرآنية هناك تلازم عميق بين فضيلتي الحق والعدالة. المنطلق الأول والأساسي لتقرير ما هو عادل وما هو غير عادل تحكمه شعارات أخلاقية، من مثل الحق والقسط والظلم سلباً، أو إيجاباً: كقوله تعالى «وممن خلقنا أمة يهدون بالحق، وبه يعدلون» أو قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر...» أو قوله تعالى «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل...» أو قوله تعالى «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا...» أو قوله تعالى «وأوفوا الكيل والميزان بالقسط.. وإذا قلتم فاعدلوا...»، وفي كل مكان تفوح رائحة الأخلاق والسمو الروحي والعفة المسلكية. وفي ضوء وأحكام مثل تلك المنطلقات فقط، ينتقل المشرع إلى أمور التنظيم والقوانين والأحكام.
لو قارنا ذلك بنظرة أحد أهم المنظّرين المشار إليه كأحد أهم المصادر الفكرية والتنظيمية لشعار العدالة، الأمريكي جون رولز، كما جاء في أفضل وأشهر كتبه «نظرية العدالة»، لوجدنا أن المنطلق الأساسي الحاكم هو تنظيمي، سياسي، اقتصادي يتلخص في مبدأين لتحقق العدالة: الأول هو الضمان لكل فرد بحصوله على عدد ونوع من الحريات مساوٍ لما يحصل عليه كل فرد آخر، والثاني توفر، بقدر المستطاع، مستوى معقول من الحاجات المادية التي يحتاجها كل إنسان.
موضوع العدالة هنا، إذن، ينطلق أساساً من ممارسات تنظيمية سياسية ومعيشية تؤمّن نوعاً من العدالة لإنجاح النظام الديمقراطي الذي تأخذ به المجتمعات الغربية. لا اعتراض على ذلك بالطبع، ومن الممكن للمجتمعات العربية أن تأخذ به، ولكن بعد أن تربطه أولاً ربطاً بالدوافع والمتطلبات والمعايير الأخلاقية والروحية الإنسانية بكل مصادرها، ذلك الربط الذي سيحمي عملية التنظيم التي يقترحها جون رولز وأتباعه.. سيحميها من التفسيرات والتقلبات والتلاعبات السياسية والاقتصادية الانتهازية التي أفسدت الحياة الإنسانية عبر العصور، وسيكون أيضاً مصدر وعي نضالي دائم لدى الفرد والجماعات.
كان ذلك مثالاً توضيحياً واحداً، إذ الموضوع أكبر وأعقد من ذلك بكثير.
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdhfuczd

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"