عادي
رينوار يقترح عالماً سعيداً

«شقيقتان في الشرفة».. سحر اللون يفيض بالمشاعر

00:10 صباحا
قراءة 4 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

أكثر ما يميز لوحات الرسام الفرنسي بيير أوجست رينوار «1841 – 1919»، هو اهتمامه بتصوير الملامح البشرية، ومشاهد الحياة السعيدة، وهو يعتبر من رواد المدرسة الانطباعية، بدأ مسيرته الإبداعية بالرسم على الخزف الصيني قبل أن يدرس الفن، وعرف عنه أنه كان يزور متحف اللوفر لدراسة أعمال كبار الرسامين، غير أن المنعطف الكبير في حياته كان لحظة لقائه ثلاثة من الرسامين المميزين أثناء دراسته بباريس على يد الفنان شارلز جلاير عام 1862، وهم: ألفرد سيسلي وفريدريك بازيل، إضافة إلى كلود مونيه الذي تأثر به كثيراً، ورغم الشهرة الكبيرة التي يحتلها رينوار، إلا أن بداياته لم تشهد نجاحاً ملموساً، لكن بعد مضي عشر سنوات على أول معرض له، اكتشف الناس قيمته، وتمّ عرض 6 من لوحاته في أول معرض للمدرسة الانطباعية.

ولد رينوار في أسرة من الطبقة العاملة، وعاش حياة فقر مدقع، وكان يوزع يومه بين المتحف، والمصنع الذي كان يعمل فيه، حيث افتتن في وقت مبكر بلوحات عمالقة رسامي عصر النهضة أمثال دافنشي وكارافاجيو، وبمرور الوقت بدأ في نقل بعض النقوشات من لوحات المتحف وسقفه إلى أواني البورسلين في المصنع، وقد وجد في ذلك متعة بالغة، خاصة أن صاحب المصنع أعجب كثيراً برسوماته، وعندما نضج فنياً قام بزيارة الكثير من دول العالم، من بينها: الجزائر التي توجه إليها للعلاج من داء الالتهاب نسبة لمناخها الجيد، وهناك أنجز العديد من الأعمال الفنية المتأثرة بالشرق، وتميز هذا الفنان بأسلوبية خاصة وفريدة؛ حيث إن لوحاته مشبعة بالألوان الباهرة الرائعة، إضافة إلى قوة التضاد بين الضوء والظل وهي السمات التي تميز المدرسة الانطباعية، تلك المدرسة التي أسهم رينوار إلى جانب فنانين آخرين من أصدقائه في تأسيسها، فكانت أن أحدثت ثورة فنية كبيرة مازال أثرها مقيماً.

لوحة «شقيقتان في الشرفة»، التي رسمها رينوار عام 1881، بألوان الزيت على قماش الكتان، تعدّ من أجمل وأشهر أعماله، فهي تنتمي إلى منهج الرسام وأفكاره في التعبير عن الطبيعة والحياة الجميلة التي تفيض سعادة وبراعة في تصوير الملامح البشرية التي تظهر ما يجيش في النفس من مشاعر وانفعالات، فإظهار الجمال كان شاغله الحقيقي، وقد استوحى اللوحة من مشاهد الربيع في بلدة تسمى «شاتو»، والتي كان قد قضى فيها وقتاً ليس قصيراً، وتتميز بمناظرها الخلابة والساحرة، وكعادة الانطباعيين فهم لا يعملون على نقل الطبيعة بصورة مباشرة، بل يعملون من داخل الطبيعة نفسها بعيداً عن الاستديوهات والغرف المغلقة، فهو يمكن أن يرسم ذات المنظر في أوقات مختلفة حتى يظهر مدى تغير الألوان، ومدى تأثيرها على المنظر الطبيعي، فالألوان وضربات الفرشاة هي لعبة الفنان، وذلك ما فعله رينوار في هذا اللوحة البديعة التي تجسد الخيار الجمالي للفنان الذي فضّل دائماً رسم ما يعتبره جميلًا.

وصف

يظهر في مشهد اللوحة فتاتان تجلسان في شرفة، وتنعمان بالسلام والسكينة في يوم دافئ أمام منظر طبيعي، وخلفهما نهر السين، وترتدي الفتاة الكبرى ملابس تبدو رسمية مع قبعة حمراء، وهي تنظر إلى شقيقتها الصغرى، التي كانت تلبس فستاناً زهرياً، وتعتمر قبعة مليئة بالزهور الملونة، وتشع من عينيها البراءة، وترتكز بيديها على المنضدة أمامهما، وأمام الفتاتين سلة صغيرة تحتضن كرات الصوف، الصورة تبدو طبيعية تماماً، وتحمل مشاعر الدفء والحميمية بين الأختين، وتلك الأحاسيس تتسرب إلى المشاهد الذي يسحره المشهد والمناظر الطبيعية خلف الفتاتين؛ حيث البحيرة التي تغمرها الزهور الملونة والحشائش الخضراء.

وتدل ملامح الفتاتين على أنهما تنتميان إلى الطبقة الأرستقراطية، ويدل على ذلك طريقة رسم رينوار للشخصيات، وفي هذه اللوحة ظهرت براعته في ترجمة العلاقة بين الفتاتين والتعبير عنها بأسلوبية مبتكرة، وقد تعمد إضفاء أجواء تبدو ضبابية في خلفية اللوحة، وهو أمر يجعل المشاهد يركز بصورة كبيرة على الفتاتين، الأمر الذي يزيد من ألق العمل وديناميكيته.

تفصيل

برع الفنان في نقل دفء المشاعر إلى الناظر، الذي سيشعر بسحر هذا اليوم الصيفي وما فيه من جمال وتميّز، ونجح رينوار في أن يترجم انطباعه هو عن المشهد في هذا العمل النابض بالحياة، وتمكن من خلق مزيج لوني بدرجات متفاوتة بين الداكن والساطع، وبإمكان الناظر أن يلاحظ أن الألوان مشتركة في عدد من المشاهد كالقبعات وذلك الإشراق البادي في وجه الأختين، والذي عبّر عنه الرسام بالحمرة التي ترمز إلى الحيوية.

وفي اللوحة تظهر براعة رينوار في ضربات الفرشاة الناعمة، وذلك الإحساس الشاعري الذي بذله في الرسم، والملاحظ أن رينوار في هذا العمل لم يسر على خطى الكلاسيكيين في اهتمامهم بالألوان الفاتحة والظلال المتدرجة وصولاً إلى أفق اللوحة، بل عبر عن المشهد بطريقة مبتكرة؛ حيث لجأ إلى رسم الخلفية بألوان مكثفة، وفعل ذلك بقدر كبير في المقدمة، مع اختلاف في الدرجات اللونية؛ حتى يتميز العمل بالوضوح واللمعان، وتتجلى عبقرية رينوار في اللوحة من خلال تعامله مع الوجوه بطريقة مبتكرة؛ حيث بدت الشابة البعيدة في مشهد اللوحة هي الأقرب إلى المقدمة عبر معالجات اللون والضوء.

سحر المكان

هذ المكان، الذي رسمت فيه اللوحة، له سحر خاص، ووقع مختلف ومكانة مميزة لدى الفنان، فالشرفة هي جزء من «بيت الفرن»، وهو مطعم يقع على جزيرة في نهر السين في شاتو، وهي الضاحية الغربية لباريس، في منطقة ألتراس، وقد استعان الرسام بفتاتين لتقوما بدور الأختين؛ حيث كانت الموديل للشقيقة الكبرى هي الممثلة جين دارلوت، بينما لم يعرف مَنْ جسّد موديل الشقيقة الصغرى، وقد شهدت هذه المنطقة، قيام رينوار برسم لوحات أخرى فيها، من أشهرها لوحة معروفة تعتبر من أيقوناته الإبداعية، وهي لوحة «مأدبة غداء على القوارب».

تم شراء هذه اللوحة في نفس العام الذي رسمت فيه من عام 1881، من قبل تاجر قطع فنية يدعى بول راويل، مقابل 1500 فرنك، وبعد ذلك عرضت اللوحة لأول مرة للجمهور في المعرض الانطباعي السابع في ربيع عام 1882.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/559y2swn

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"