عادي

تفكيك الأزمات.. شرق أوسط جديد

22:49 مساء
قراءة 4 دقائق
4

د.محمد عباس ناجي*

على مدى العِقد الماضي، كان التوتر هو سمة رئيسية في التفاعلات التي تجري على الساحة الإقليمية، على نحو فرض تداعيات سلبية عدة، على حالة الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، بشكل عام، منها تصاعد أنشطة التنظيمات الإرهابية، لاسيما بعد أن ظهر تنظيم «داعش» منذ منتصف عام 2014، إلى جانب تزايد نفوذ الميليشيات المسلحة في ما يسمى ب«دول الأزمات».

من دون شك، فإن ذلك لا يعني أن المنطقة لم تكن تعاني من أزمات إقليمية مزمنة خلال العقود السابقة، لكنه يعني أنها لم تشهد في أي عقد مضى هذا الكم من الأزمات التي وصلت إلى حد تهديد بقاء بعض الدول، مثلما شهدت في العِقد الأخير.

هنا، كان لافتاً بروز اتجاه جديد على الساحة الإقليمية يتبنى خيار تفكيك الأزمات القائمة من أجل تحييد التداعيات السلبية الخطرة التي أسفرت عنها. وقد بدا ذلك جلياً في الاتفاق الذي أبرم بين السعودية وإيران برعاية صينية في 10 مارس/ آذار الجاري، ويقضي باستئناف العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين التي قطعت منذ بداية يناير/ كانون الثاني 2016. ويأتي في السياق ذاته الإعلان عن إجراء مباحثات بين السعودية وسوريا من أجل استئناف العلاقات القنصلية. وربما تشهد المنطقة خلال الفترة المقبلة مزيداً من الخطوات الهادفة إلى إجراء تغيير في أنماط التفاعلات التي تجري على الساحة الإقليمية.

دوافع عدة

يمكن القول إن ثمة دوافع رئيسية أربعة كان لها دور في بروز هذا الاتجاه خلال المرحلة الحالية. الدافع الأول، يتمثل في إدراك العديد من القوى الرئيسية في الشرق الأوسط، بأن تغليب النمط الصراعي في إدارة التفاعلات فيما بينها كان له تكلفة كبيرة اقتصادية وبشرية، في وقت تمر فيه بتحولات داخلية لا تبدو هينة. وهنا تبدو حالة إيران نموذجاً في هذا السياق. إذ إن كل الاتجاهات في طهران سارعت إلى الترحيب بإعلان الاتفاق مع السعودية، باعتبار أنه سيكون له تأثير إيجابي في الداخل الإيراني نفسه، الذي يعاني أزمة اقتصادية مزمنة بسبب العقوبات التي تفرضها بعض الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أن ذلك لا ينفي أن الوصول إلى تقييم شامل للتداعيات التي يمكن أن يفرضها الاتفاق ما زال مبكراً بانتظار ما سوف تؤول إليه المباحثات التي سوف تجرى بين الطرفين خلال المرحلة القادمة، حيث اتفق وزيرا خارجية البلدين على عقد لقاء خلال شهر رمضان المبارك، وفقاً لما يقضي به الاتفاق من استئناف العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارات خلال شهرين.

وفي كل الأحوال، فإن هناك تعويلاً من جانب قوى عدة معنية بدعم حالة الأمن والاستقرار الإقليميين، على أن هذا الاتفاق يمكن أن يكون مدخلاً لتفكيك أزمات إقليمية مختلفة، وفي مقدمتها الأزمة اليمنية، التي تفاقمت حدتها بسبب إصرار الميليشيات الحوثية على مواصلة تمردها على الشرعية وعدم الاستجابة للقرارات الأممية، ومطالب المجتمع الدولي.

الدافع الثاني، يتعلق بأن تصاعد حدة التوتر في العلاقات الإقليمية كان من ضمن الأسباب التي أدت إلى تفاقم تهديدات التنظيمات الإرهابية التي اتسع نشاطها بشكل كبير في العديد من الدول العربية خلال العِقد الأخير. وقد بدا ذلك جلياً في سيطرة تنظيم «داعش»، منذ ظهوره في منتصف عام 2014، على مساحات شاسعة من العراق وسوريا، واتجاهه إلى تكوين أفرع مسلحة في العديد من الدول الأخرى، بل وتنفيذ عمليات إرهابية كبيرة، داخل المنطقة وخارجها، قبل أن يتعرض لضربات وهزائم نوعية في الأعوام الستة الأخيرة.

الدافع الثالث، ينصرف إلى تزايد ارتدادات الأزمات التي تشهدها الساحة الدولية على المنطقة. إذ لا يمكن تجاهل أن الأزمة الروسية – الأوكرانية فرضت تداعيات لا تبدو هينة على الشرق الأوسط، ربما كان لها دور في بروز الاتجاه نحو تفكيك الأزمات الإقليمية المختلفة. ورغم أن هذا الاتجاه سابق عليها، إلا أن هذه الارتدادات التي أنتجتها كان لها دور في إضفاء وجاهة خاصة عليه خلال الفترة التي تلت بداية الحرب في 24 فبراير/ شباط 2022.

إذ كشفت هذه الأزمة أن الحرب الكلاسيكية ما زالت خياراً حاضراً في إدارة التفاعلات بين الدول بعد أن تراجع نسبياً خلال المرحلة الماضية. بل إن التهديد باستخدام الأسلحة النووية لم يعد استثناء بعد اندلاع هذه الأزمة، بما يعني أن النظرة التقليدية للأسلحة النووية على أنها «أسلحة للردع» لم تعد قائمة في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.

هنا، فإن هذه الحرب كشفت، إلى حد كبير، فداحة عدم المسارعة إلى تفكيك الأزمات الإقليمية التي يمكن أن تؤدي إلى اندلاع حرب جديدة في المنطقة، بكل ما سوف يفرضه ذلك من تداعيات على أمن واستقرار دولها، خاصة الدول التي نجحت في تبنّي مشروعات تنموية عملاقة أصبحت نموذجاً يحتذى على المستويين، الإقليمي والدولي.

ولذا، فإن هذه الدول تعاملت مع الحرب الروسية – الأوكرانية التي وصلت ارتداداتها سريعاً إلى المنطقة، بما يساعدها أولاً على تعزيز مكانتها، الإقليمية والدولية، ويمكنها ثانياً من تقليص أية ضغوط قد تتعرض لها في ظل الاستقطاب الاستراتيجي الذي فرضته الحرب، بين روسيا والدول الغربية، عبر تكثيف جهودها لتفكيك تلك الأزمات من خلال تبنّي نمط آخر في إدارة التفاعلات الإقليمية.

الدافع الرابع، يتصل بأن استمرار هذه الأزمات كفيل باستمرار أعراضها غير الصحية، لا سيما الميليشيات المسلحة التي تتغذى على تفاقم حدتها، وتسعى إلى عرقلة جهود تسويتها، لما في ذلك من تهديد مباشر لمصالحها التي اتسع نطاقها خلال مراحل تطورها. وإن الاتجاه نحو تفكيك الأزمات الإقليمية يمكن أن يساعد في إنهاء هذه التهديدات، أو على الأقل تحييد تداعياتها العابرة للحدود، على نحو يتوافق مع مصالح وحسابات القوى المعنية بتبني هذا الخيار.

في النهاية، يمكن القول إن هذا الاتجاه يبدو أنه سيتواصل خلال المرحلة المقبلة، وربما بقوة دفع أكبر، خاصة في ضوء إدراك القوى الرئيسية بالمنطقة أن كلفة الاستناد إلى خيارات أخرى في إدارة التفاعلات الإقليمية قد تفرض تداعيات سلبية لا تبدو هينة.

* خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ydvf66dk

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"