العدالة والسيرك.. ومستقبل القوة الأمريكية

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

«يا للهول.. إنهم يريدون أن يعتقلوني، لا أكاد أصدق أن هذا يحدث في أمريكا التي كانت ذات يوم عظيمة». كان ذلك تصريحاً مثيراً بنصه ودلالاته.

 الرئيس السابق دونالد ترامب يعتقد حقاً أنه فوق القانون، وأن التفكير في اتخاذ إجراءات قضائية بحقه «مؤامرة» وفعل «سوريالي» غير قابل للتصديق.

  على نحو لافت تداخلت إجراءات العدالة وأعمال السيرك في أول محاكمة لرئيس أمريكي سابق بتهم بعضها جنائية.

 أمعن المتهم في التجاوز اللفظي والأخلاقي بحق قضاته، فالمدعي العام «يساري راديكالي وفاسد» والقاضي «منحاز ضدي ويكرهني». التسييس الزائد ساد أجواء المحاكمة والتصرفات ناقضت اعتبارات العدالة.

 أمريكا المضطربة لا تكاد تعرف مواقع أقدامها إلى المستقبل. ترامب يرى أن «دولتنا تتجه إلى الجحيم»، كأن محاكمته دليل على الفشل، دون أي دفاع مقنع عن الاتهامات الموجهة إليه وأغلبها شائن بأي معنى أخلاقي أو سياسي.

 القضية لا تلخصها الرِّشى التي دفعها ل«شراء الصمت» على فضائح جنسية ارتكبها، ولا التزوير في سجلات رسمية لإخفاء معالم الجريمة حتى لا تؤثر في حملته الانتخابية الرئاسية (2016).

 صلاحيته للرئاسة كانت صلب واقعة «شراء الصمت»، وهي موضوع محاكمته الآن دون كلام كثير عن العدالة الأمريكية.

 «أواجه حملات اضطهاد ضدي»، كان ذلك جوهر استراتيجية ترامب للدفاع عن نفسه وبناء تعاطف معه باعتباره ضحية. وفيما هو ظاهر أثبتت فاعلية كبيرة في دوائر مؤيديه. من هذه الزاوية بدت المحاكمة مباراة سياسية في الحشد والتعبئة وإقناع الرأي العام أخذ فيها ترامب زمام المبادرة.

 مباراة سياسية لا قانونية. المثير للالتفات أن الاتهامات التي يحاكم عليها أمام محكمة في نيويورك، أقل أهمية وخطورة بما لا يقاس من اتهامات أخرى قيد استكمال إجراءاتها، مثل التحريض على اقتحام مبنى الكابيتول، والتدخل لتغيير نتيجة الانتخابات الرئاسية في جورجيا، والأخطر حيازة وثائق سرية خطيرة ليس من حقه الاحتفاظ بها في قصر مارا لاجو، الذي يمتلكه بولاية فلوريدا.

 في أجواء الاصطفاف الحزبي يصعب أن تكون هناك عدالة ذات صدقية. لا الجمهوريون سوف يقبلون إدانة ترامب خشية أن تؤثر في حظوظهم الانتخابية، ولا الديمقراطيون تعنيهم العدالة إلا بقدر ما توفره من فرص لإزاحته من المشهد كله.

 الانقسام الأمريكي الحاد يطرح بالضرورة سؤالاً: إلى أي حد تؤثر محاكمة الرئيس السابق الأكثر إثارة للجدل في صورة الولايات المتحدة في عالمها؟

 يفترض نظرياً أن تفضي إلى تحسين في الصورة، باعتبارها بلداً لا أحد فيه فوق القانون، غير أن أعمال السيرك التي شابت المحاكمة، تدعو إلى الاعتقاد أن ثمة مشكلة جوهرية في مؤسسة العدالة وصدقيتها واحترامها، ومشكلة حقيقية أخرى في بنية المؤسستين التشريعية والتنفيذية.

 بصورة ما يلخص الرئيسان المتعاقبان، ترامب الجمهوري وبايدن الديمقراطي عمق الأزمة الأمريكية.

الأول، جاء من خارج المؤسسة، رجل أعمال طموح ومتفلت، أدار الدولة بالطريقة التي يدير بها شركاته، رفع شعار «أمريكا أولاً»، حاول بقدر ما يستطيع تفكيك الاتحاد الأوروبي، ولم يكن مقتنعاً أن حلف «الناتو» يستحق ما تتكفل به الولايات المتحدة من تكاليف مالية، ف«الأمن مقابل الدفع».

 والثاني، جاء من داخل المؤسسة، تمرس في العمل التشريعي لسنوات طويلة، عمل نائباً للرئيس لفترتين. بدت صورته باهتة بالقياس إلى شخصية أوباما، لم يكن مقنعاً بصلاحيته للرئاسة، لكنه كسب معركتها الانتخابية كنوع من التصويت العقابي لترامب وسياساته.

 في تجربته الرئاسية اتخذ منحى مغايراً لتأكيد القوة الأمريكية وأنها قد عادت. وجد في الأزمة الأوكرانية فرصة سانحة لإعادة بناء التحالف الغربي وضخّ دماء الحياة في «الناتو» مجدداً وضم دولاً جديدة إليه.

 يتصور أن بوسعه استعادة صفة الدولة العظمى المنفردة.

 قصة الرئيسين بكل تناقضاته، توحي أننا أمام امبراطورية غاربة. لم يعد ذلك استنتاجاً بالهوى من كتّاب ومفكّرين في العالم الثالث بقدر ما صارت مقولة متداولة في الولايات المتحدة نفسها، وجدت من يتبنّاها من كبار صحفييها مثل سيمور هيرش، الذي بنى صيته على تحقيقاته الاستقصائية المدققة.

 بنص عبارته الموحية: «أمريكا لم تعد دولة عظمى». هذه هي الحقيقة الكامنة في قصة ما يجري الآن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2bfasna2

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"