كشف تمرد قوات «فاغنر» الفاشل عن عمق الصراع بين روسيا والغرب لبسط السيطرة والنفوذ على الساحة العالمية، وفي المقدمة القارة الإفريقية، خصوصاً مع تراجع النفوذ الغربي الأمريكي الأوروبي واستبداله بحضور روسي قوي أربك حسابات الغرب في ظل التحولات الجارية في العالم.
مع بدء تمرد قوات «فاغنر» في أوكرانيا بزعامة يفيغيني بروغوجين، وتحركه نحو موسكو، انفتحت شهية الغرب لاستغلال هذا التمرد إلى أقصى درجة ممكنة، فإن لم يتم إسقاط النظام الروسي، فإنه، على الأقل، سيشعل حرباً أهلية أو يخلق اضطرابات ومشاكل لموسكو، تؤدي إلى إضعافها، ناهيك عن التخلص من دور هذه القوات في أوكرانيا، ما يعطي الهجوم الأوكراني المضاد بعض الأمل بإمكانية النجاح. لكن ساعات التمرد الذي راهن عليه الغرب، انتهت بشكل مفاجئ وعلى غير ما يشتهيه، وأسقطت التسوية التي قادها الرئيس البيلاروسي والحكمة الروسية كل هذه الرهانات، لتبدأ بعدها، على الفور، الآلة الإعلامية الغربية بضخ التصريحات المشككة في قدرة الرئيس الروسي بوتين في السيطرة على البلاد، وطرح التساؤلات حول مصير «فاغنر» وشبكة علاقاتها الضخمة الممتدة من الشرق الأوسط إلى إفريقيا وحتى أمريكا الجنوبية.
والأهم أنه جرى شيطنة مجموعة «فاغنر» وتصويرها على أنها مجموعات إجرامية تستهدف قتل المدنيين لصالح الأنظمة المتعاقدة معها، ونهب خيرات الشعوب وثروات البلدان التي تعمل فيها. والواقع أن «فاغنر» لم تكن سوى شركة أمنية خاصة، ولها قوات منتشرة في العديد من مناطق العالم، ربما يصح القول إنها كانت تخدم المصالح الروسية، وهو أمر قد يكتسب مشروعيته في إطار الصراع بين روسيا والغرب. ولكن لماذا لا يتحدث االإعلام الغربي عن شركات أمنية مماثلة في الغرب، ولماذا لم يتطرق هذا الإعلام، على سبيل المثال، إلى الدور الذي قامت به شركة «بلاك ووتر» الأمريكية في العراق وقتلها مئات المدنيين هناك، ولماذا لا تتحدث هذه الآلة الإعلامية عن الدور الذي كانت تقوم به قوات فرنسية خاصة في إفريقيا، ولماذا تنتشر قوات أمريكية في بعض أنحاء إفريقيا ولها مركز قيادة في القارة السمراء.
وهنا بيت القصيد، حيث يدور الصراع بين الشرق والغرب على النفوذ والهيمنة في تلك القارة، لكننا لم نسمع أن قوات «فاغنر» عملت على إسقاط هذا النظام أو ذاك، بينما قامت القوات الفرنسية الخاصة، مثلاً، بالتدخل وإسقاط الكثير من الأنظمة الإفريقية لصالح استكمال دورها الاستعماري، وإحكام قبضتها على نهب مقدرات تلك الدول. وربما هذا ما يفسر قيام دول إفريقية كثيرة، بطرد القوات الفرنسية من أراضيها، ومن بينها مالي وبوركينا فاسو وغيرها، قبل أن تقوم مالي بإنهاء دور قوات الأمم المتحدة على أراضيها.
من الواضح أن موسكو لن تجازف بالتخلي عن علاقاتها مع الدول الإفريقية وإنهاء تعاقدات «فاغنر» مع بعض دول القارة، أو حتى خارج إفريقيا، فما حدث بعد التمرد، يشي بإعادة هيكلة وترتيب قيادة «فاغنر» وعناصرها في الخارج لا أكثر.