النزوح ومخاطر لبنان الوجودية

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. خليل حسين

لم تعد أزمة النزوح إلى لبنان أزمة عابرة؛ بل باتت تشكل خطراً وجودياً على الكيان وتركيبته الهجينة أصلاً. وإذا كانت هذه المخاوف قد برزت حالياً، إلا أن جذوراً وامتدادات تاريخية متنوعة لعبت دوراً محورياً في إبرازها ورفع مستويات منسوب المخاطر، مع تشكيل عناصر التوتر المجتمعي وسط غياب تام للسلطة السياسية المعنية بمعالجة مثل تلك الأزمات.

 وواقع الأمر أن النزوح، وبخاصة السوري إلى لبنان، ليس بجديد، إنما عاد إلى الواجهة خلال الأيام الماضية عبر كثافة متجددة وصفها بعض المتابعين والمهتمين ب«الاجتياح»، حيث رصدت خلال الشهرين الماضيين محاولات يومية وصلت أعدادها إلى حدود 8 آلاف فرد يومياً، وثمة من يضع هذا الموضوع في صيغة المؤامرة على الكيان اللبناني، باعتبار أن استمرار التدفق سيؤدي إلى تغييرات مرعبة لن يكون لبنان قادراً على استيعابها في ظل ظروفه الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المأساوية.

 إن أزمة النزوح تعدت مبدئياً مشكلة الأزمة الاقتصادية التي يعانيها لبنان لجهة عدم القدرة الاستيعابية أو في أفضل الظروف تقديم الحد الأدنى المطلوب وفقاً للمعايير الدولية، وباتت الأزمة حالياً تتمثل في نسب السوريين وغيرهم الذين باتوا يشكلون نصف تعداد السكان إن لم يكن أكثر، وسط غياب الضوابط القانونية اللازمة للتعداد، وانتشار المعابر غير الشرعية، وعدم قدرة القوى الأمنية والعسكرية على الضبط والاستيعاب، ناهيك عن تكرار عمليات المحاولة للأشخاص أنفسهم.

 واللافت في الأمر هو الهرم العمري للنازحين، وهم من فئة الشباب، إضافة إلى العائلات، أي بمعنى آخر ستشكل هذه الفئات بطبيعتها عوامل تفجير إضافية للواقع اللبناني المختل أصلاً، لجهة الإنجاب والمنافسة على ما تبقى من ظروف عمل متواضعة، معطوفة على مخاطر أمنية تبعاً لما يمكن أن يكون بين النازحين من فئات مدربة عسكرياً وقابلة للانخراط في أعمال أمنية وعسكرية.

 ووسط هذا الواقع الضاغط بمختلف أوجهه، ثمة غياب تام مما تبقى من السلطة السياسية لمواجهة هذا الواقع. والمفجع ما يحدث من تطيير نصاب اجتماعات مقررة للبحث في الموضوع على الصعيدين الحكومي والبرلماني، وكأن ثمة اتفاقاً ضمنياً بين القوى الفاعلة على تمييع الموضوع والهروب إلى الأمام في موضوع هو الأشد حساسية منذ نشأة الكيان اللبناني في عام 1920.

 وفي موازاة الواقع الداخلي، ثمة وقائع دامغة تمارسها المؤسسات الدولية المعنية بالنازحين واللاجئين، تنطلق من العمل على دمج النازحين اجتماعياً في لبنان وربط تقديم المعونات والمساعدات بتسهيل عمليات الإدماج، وتهيئة الظروف المناسبة لتسهيل الدمج من خلال برامج التعليم والإيواء والصحة وغيرها.  باختصار، تتلاقى الظروف الخارجية مع الداخلية لتكوين ظروف أكثر ملائمة للقضاء على التركيبة الاجتماعية التي رتبت على عجل عبر عمليات الضم والفرز للجماعات والفئات الاجتماعية والطائفية لتشكيل كيان هجين عرف باسم لبنان، ولم يتمكن قاطنوه من الانتقال من صفة السلطة والدولة إلى صفة الوطن.

 وغريب المفارقات في الواقع اللبناني، أنه في عام 1936، أي بعد إنشاء لبنان بستة عشر عاماً، تخللها دوام مطالبة المسلمين في لبنان بالانضمام إلى سوريا وعدم قبولهم بالكيان الجديد، تمكنت قيادات الكتلة الوطنية السورية من إقناع اللبنانيين بفكرة القبول بالكيان اللبناني، والتخلي عن الانضمام إلى سوريا، في حين اليوم ثمة إجماع لبناني حول مخاطر النزوح على الكيان ووجوب العمل على حله، أي بمعنى انتشار وترسخ فكرة التمسك بالكيان اللبناني والمحافظة عليه.

 من الواضح أن لبنان لم يعد أولوية في مفكرة الدول الإقليمية والدولية الفاعلة، ما سينعكس سلباً على واقعه الوجودي المأزوم، وهو ما سيشكل أيضاً معضلات إضافية مستقبلاً تتصل بكيانات المنطقة وعلاقاتها البينية إذا ظلت بنفس الصيغ السياسية والدستورية، وأيضاً علاقاتها مع دول إقليمية وغربية لها باع ليس بقليل في رسم وتنفيذ ما تريده من مصالح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yckczpzc

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"