التغريبة الأرمنية.. نهاية كاراباخ

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد نورالدين

انفجر الصراع في القوقاز الجنوبي وشنّ الجيش الأذري حملة عسكرية جوية وبرية على مقاطعة كاراباخ الأرمنية ذات الحكم الذاتي والتابعة لأذربيجان. وبعد أقل من يومين كان مسلحو الإقليم من الأرمن يعلنون استسلامهم وحلّ أنفسهم ومغادرة الإقليم إلى أرمينيا. وبعد أيام قليلة كان رئيس ما يسمى ب «جمهورية أرتساخ» في كاراباخ صامويل شهرمانيان يعلن فسخ الجمهورية وكأنها لم تكن منهياً وجودهاً الذي أعلن في العام 1991.

 ما حصل حتى تلك اللحظة كان يمكن أن يحدث في كل مكان في العالم، ووفقاً لاختلاف الظروف. غير أن الهجرة الجماعية لأرمن كاراباخ بعد الهجوم الأذري من المنطقة إلى أرمينيا كان العلامة الأبرز على ما شهدته المنطقة من أحداث متلاحقة.

 الهزيمة التي لحقت بالأرمن في كاراباخ ليست أمراً مفاجئاً بل يحدث لدى كل الشعوب الكبيرة والصغيرة. لكن التراجيديا غير المسبوقة هو أن تفرغ منطقة من كامل سكانها الذين عاشوا فيها منذ ألفين وخمسمئة سنة وكانوا أول من سكنها قبل أن تفد البطون والأفخاذ والأجباب التركية من غرب الصين إلى آسيا الوسطى والقوقاز في القرن العاشر للميلاد، أي بعد ذلك بألف وخمسمئة عام، فهذا أمر يفوق الوصف. خصوصاً أن الذي جرى حالياً ليس في زمن القبائل والعشائر بل في زمن الديمقراطيات وحقوق الإنسان.

 كان في كاراباخ نحو 120 ألف مواطن أرمني، لم يبق منهم أحد بعدما غادروا بما خف حمله في هجرة موصوفة، تشبه النكبة الفلسطينية، إلى داخل أرمينيا حيث توزعوا في المدارس والملاعب الرياضية وحيث أمكن ذلك. وبذلك طوت القضية الأرمنية واحدة من أفظع صفحاتها بعد المجازر الكبرى التي عرفوها في العام 1915 على يد العثمانيين الأتراك وانتهت إلى مقتل أكثر من مليون أرمني وتهجير مئات الألوف منهم إلى سوريا والعراق ولبنان ومصر من مناطق الأناضول الشرقي.

 وقع الأرمن ضحية أمرين اثنين: المصالح الدولية وأخطاء السلطة الحاكمة في يريفان. ففي عالم لا يعترف سوى بالمصالح الاقتصادية كان أرمن كاراباخ وأرمينيا نفسها ضحية انحياز العالم إلى الطرف الأقوى الذي هو في حالة القوقاز أذربيجان التي تمتلك الثروة الطبيعية من نفط وغاز. وبعد حرب أوكرانيا وحاجة الغرب إلى الغاز الطبيعي بعد وقف استيراد الغاز الروسي، كانت أذربيجان أحد المصادر البديلة الأكثر تأثيراً. واستفادت باكو من حاجة الغرب إليها لتنتهي من قضية كاراباخ من دون أن يتدخل الغرب لوقف التهجير الجديد للأرمن على قاعدة: الغاز أهم من الدم. كذلك كان لإسرائيل دور بارز في التهجير من خلال مد أذربيجان بأربعين طن من الأسلحة بين آذار/ مارس الماضي وحتى مطلع أيلول/ سبتمبر المنصرم. وكان للمسيّرات الإسرائيلية كما التركية وصواريخ «لورا» البالستية الإسرائيلية دور كبير في تصفية المسلحين في كاراباخ. ولكن الدعم الإسرائيلي كان بهدف أساسي آخر وهو تعزيز الهيمنة الأذربيجانية في القوقاز الجنوبي.

 كذلك كان لتركيا مصلحة كاملة في دعم «الشقيق» الأذري، باعتبار أن أي هزيمة تلحق بالأرمن أينما وجدوا هو هدف للقوميين الأتراك الذين يخوضون صراعاً حاداً مع الأرمن منذ مجازر 1915.

 وإذ خيّر الأذريون سكان كاراباخ الأرمن بين البقاء كمواطنين أذريين أو مواجهة المصير المظلم؛ فضّل الأرمن الرحيل على الذوبان بالهوية الأذرية أو التعرض للتصفية وملاقاة المصير نفسه لأرمن 1915.

 الأمر الثاني المهم في مسألة هجرة الأرمن هو الأخطاء الاستراتيجية الكبيرة التي ارتكبها رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان عندما نقل البندقية من كتف روسيا إلى كتف الولايات المتحدة واعتبر أن الاعتماد على روسيا «خطأ استراتيجي». واستدعى باشينيان الجنود الأمريكيين في مناورات مشتركة في أرمينيا قبل أيام قليلة من الهجوم الأذري، الأمر الذي استفز موسكو فامتنعت عن نجدته لا عام 2020 ولا الآن. أكثر من ذلك لعب باشينيان دوراً مشجعاً في رحيل أرمن كاراباخ من خلال القول باستعداده استقبال أربعين ألف عائلة أرمنية من كاراباخ. فكانت النتيجة هجرة سكان كاراباخ المئة والعشرين ألفاً وأخلوا المنطقة من ساكنيها للمرة الأولى منذ ألفين وخمسمئة عام.

 في المحصلة، تسقط الشعوب الضعيفة دائماً ولو امتلكت الحق، ويغلب الأقوى. وهذه رسالة لكل الشعوب لتأخذ العبر مما جرى؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ynv6ntd6

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"