عادي
أشهر تحفة فنية لتاريخ بولندا في القرن الـ19

«ستانزيك» لماتيكو.. المهرج ينزع قناع الفرح

23:27 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

ممارسات فنية غاية في الروعة والإبداع، تلك التي قدّمها الرسام البولندي يان ماتيكو «1838–1893»، والذي يعد الفنان الأكثر شهرة في تاريخ بولندا، ولد بمدينة كراكوف، وكثيراً ما أشاد النقاد بأسلوبيته الكلاسيكية، وبصورة خاصة انفتاحه على التاريخ البولندي الذي يسلط إضاءات ساطعة على كثير مما خفي منه، وعلى العادات الاجتماعية والموروث الفني القديم، حيث وصفت لوحاته بالساحرة واللامعة والأنيقة، الأمر الذي يشير إلى براعته وإتقانه الفني.

عندما كان ماتيكو طفلاً، اندلعت ثورة كراكوف عام 1846، ثم كان حصار المدينة عام 1848 من قبل النمساويين، وتلك أيام راسخة في أذهان البولنديين، أما بالنسبة إلى سيرته الدراسية، فقد التحق ماتيكو بمدرسة سانت آن الثانوية، وبعدها ترك الدراسة في 1851، وقد بدأ نبوغه الفني باكراً، فكان أن عزز الموهبة وصقلها بالدارسة في كلية الفنون الجميلة في كراكوف من 1852 إلى 1858. واختار تخصص الرسوم التاريخية وهو المجال الذي أبدع فيه كثيراً، وبعد تخرجه حصل على منحة دراسية في عام 1859 للدراسة مع هيرمان أنشوتز في أكاديمية الفنون الجميلة في ميونيخ. ثم منحة أخرى للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا، غير أنه عاد إلى كراكوف قبيل أن يكمل دراسته، وذلك من أجل تدشين مسيرته كفنان من خلال إنشاء استوديو خاص به في منزل عائلته، وكانت تلك الفترة متعثرة بعض الشيء، غير أنه بذل جهداً كبيراً كُلل بالنجاح قاده إلى عالم النجاح والشهرة، حيث بدأ جني ثمار أعماله الفنية، بدءاً من 1862، من خلال لوحات خلدها التاريخ.

لوحة «ستانزيك»، أو المهرج، التي رسمها ماتيكو عام 1862، تعد واحدة من أفضل أعماله الفنية، بل وأكثر اللوحات البولندية شهرة على الإطلاق، وهي تنتمي إلى ذلك المشروع الإبداعي الكبير للفنان في كشف التاريخ البولندي وإبقاء بولندا في ذاكرة العالم، بينما كانت بلاده منقسمة اجتماعياً وسياسياً في عصره، حيث أصبحت أعماله التي نُشرت في آلاف النسخ توضيحاً للعديد من الأحداث الرئيسية في التاريخ البولندي، ويُعد ألبومه المصور الذي حمل عنوان «أسلوب اللباس في بولندا عام 1860»، مرجعاً تاريخياً قيماً، ودائماً ما كان ماتيكو يستخدم الرسم التقليدي وينزع إلى الواقعية القديمة والتأثيرات المسرحية، وسببت أعماله كثيراً من الجدل، وبعضها في نظر الطبقة البرجوازية كان مزعجاً، خاصة أن بعض هذه الأعمال تناول شخصيات عدة من طبقة النبلاء، ممن وجدوا أن الفنان يتناولهم بصورة مهينة، وبالتالي خضعت لوحاته للرقابة في الإمبراطورية الروسية، وخططت ألمانيا النازية لتدمير لوحة «معركة غرونفالد» ولوحة «بيعة بروسيا» التي اعتبرتها السلطات النازية مسيئة، غير أن المقاومة البولندية نجحت في إخفاء كثير من القطع الفنية، ومن هنا يتضح أن رسومات ماتيكو كانت شديدة التأثير، خاصة تلك التي تتكئ على التاريخ، أو التي تصور مشاهد الواقع الاجتماعي والسياسي في عصره، ومنها هذه اللوحة العظيمة «ستانزيك» التي تمثل انتقالاً واضحاً في أسلوبه الفني الذي يتجاوز رسم الحادثة التاريخية إلى تعقب دلالاتها الفلسفية والأخلاقية، وعلى الرغم من أن هذه اللوحة لم تحظ بالشهرة الكبيرة في البداية، فإنها صارت في ما بعد أكبر الأيقونات الفنية في بولندا.

خلفية

كان ستانزيك، الشخصية التي تظهر في اللوحة، مهرجاً للبلاط عندما كانت بولندا في أوج قوتها السياسية والاقتصادية والثقافية خلال عصر النهضة، في عهد الملك سيجيسموند الأول الذي حكم في الفترة من 1506إلى 1548، إذ كان شخصية تتمتع بشهرة طاغية، وإلى جانب كونه مهرجاً، فقد وصف بأنه رجل فصيح وذكي، يستخدم السخرية للتعليق على ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها، حيث كان يحشد عروضه بكثير من الرؤى الفكرية والفلسفية، وكان ذلك الأمر على عكس ما عُرف عن المهرجين في القصور والبلاطات الأوروبية الأخرى الذين كانوا يقدمون عروضهم فقط من أجل المتعة والضحك، بينما كان ستانزيك يقدّم رسائل مبطنة ومباشرة، لذلك لطالما اعتبر أكثر من مجرد فنان، وكانت شهرة ستانزيك وأسطورته قوية في عصره، وانتعشت في القرن التاسع عشر، ولا تزال تلك الشخصية باقية في ذاكرة البولنديين، وعلى الرغم من ذلك، هنالك من يشكك في كونه كان موجوداً بالفعل، حيث ظهرت بعض الفرضيات في القرن ال19، ويشير بعضها إلى أن ستانزيك قد اخترع بالكامل من قِبل الشاعر البولندي جان كوتشانوفسكي، بينما ذكرت فرضية ثانية، وهي أن ستانزيك ربما كان مهرّجاً نموذجياً يرتدي زياً معاصراً (إيسوبي)، فيما لفتت فرضية ثالثة إلى أنه قد يكون مجرد شخصية مقتبسة من عالم شكسبير، غير أن الاتجاه الغالب وسط العلماء المعاصرين هو أن شخصية ستانزيك كانت موجودة بالفعل، وحتى لو لم تكن موجودة، فقد كانت لها أهمية كبيرة على الثقافة البولندية في القرون اللاحقة، حيث ظهرت في أعمال العديد من الفنانين في القرنين ال19 وال20، وظلّت على الدوام تسكن ذاكرة البولنديين، الأمر الذي جعل هذه اللوحة واحدة من أهم القطع الفنية في التاريخ البولندي، لكونها قد ركزت على هذه الشخصية المهمة.

وصف

في مشهد اللوحة يظهر ستانزيك، يرتدي زي المهرجين باللون الأحمر، وهو يجلس وحيداً حزيناً كسيف البال، وعلى الرغم من أن هنالك حفلة في المكان تستضيفها العائلة المالكة، فإن ستانزيك ترك مظاهر المتعة والاحتفال ولجأ إلى غرفة مظلمة وهو يبدو كئيباً، ويفكر بعمق، ومظهره يختلف كلياً عن ما يتوقعه المرء من مهرج، ويشير النقاد والمؤرخون إلى أن سبب حزن ستانزيك هو اطلاعه على رسالة تعلن أن بولندا فقدت منطقة سمولينسك لصالح روسيا، الأمر الذي جعله يغتم ويفكر في مصير وطنه، بينما يبدو أن المسؤولين الموجودين في الحفل، في خلفية اللوحة، قد تجاهلوا تلك الرسالة تماماً وانصرفوا نحو الاحتفال والرقص.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5zue3fsc

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"